الاثنين، 11 أبريل 2022

حول نظرية أن التوراة خرجت من جزيرة العرب

 


التوراة أو كتاب العهد القديم هو كتاب اليهود الذي يحوي قصصهم التي ورد جزء كبير منها في القرآن، ولكن كان في بعضه اختلاف ببين الكتابين، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا نكذِّب روايات اليهود ولا نصدقها. ومن ثم فإن التعامل معها يفترض أن يكون باعتبارها مصادر تاريخية قابلة للصحة او الخطأ، فهذا لا يتعارض مع ما قاله النبي (ص).

  ونحن عندما نقرأ الأخبار الإسرائيلية في التوراة نجد أن هنالك الكثير من المعلومات التي تتوافق مع النقوش الآشورية والأكادية والمصرية المختلفة فيما يخص الألفية الأولى قبل الميلاد، وربما امتد هذا التوافق إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث وجدنا أن أخبار العرب والقيداريين والتيمائيين والنبايوتيين والميديانيين والآراميين وسواهم ممن ذكرتهم التوراة ـ ممن لم تحط بهم الكتابات الكلاسيكية ـ موثقين في المسلات الآشورية مما يدل على مصدرية التوراة بالنسبة لهذه المرحلة، مع الأخذ في الاعتبار التحريف الذي تعرض له التوراة على أثر النزوع للمبالغة والذات المتضخمة عند اليهود.

 ولكن هنالك من لهم آراء أخرى!.

   منذ أن فجر الدكتور كمال الصليبي نظريته حول الجغرافيا التاريخية لروايات التوراة اليهودية في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" والتي توصل فيها من خلال المقارنات بين الأسماء هنا وهناك وإحالة بعض الإشارات لمفاهيم أخرى، إلى أن التوراة تتحدث عن قصص واحداث كانت في إقليم عسير في جبال السراة وما إليها شرقا وغربا، وقد أورد الكثير من الأسماء والشواهد التي رآها تسير إلى النتيجة التي وصل إليها، ورأى بأن المصريين كانوا يقومون بتأمين خشب العرعر من عسير (وليس من أرز لبنان) كمادة للبناء ولتعمير السفن، وقد طبع الكتاب بداية باللغة الألمانية ثم ترجم للعديد من اللغات واحدث جدلا في الأوساط العلمية، وقد نشط الدكتور كمال بعده لفترة وألقى عددا من المحاضرات ثم خبا نشاطه.

ولكن ظهر بعده مريدون لطريقته من كل حدب، فقد كتب بعده زياد منى كتاب "جغرافيا التوراة مصر وبنو إسرائيل في عسير"، وقد واصل منى ما بدأه الصليبي وتحدث عن الشواهد والدلالات في الأسماء والنقوش وفي الاحاديث النبوية والقرآن التي رأى أنها تشير إلى أن اليهود عند نزول كتاب التوراة كانوا في عسير، ومما استشهد به "النقش (G11 155)  لعالم الآثار النمساوي إدوارد غلازر Eduard Glaser الذي عثر عليه في اليمن في مطلع القرن الحالي. وفي هذا النقش الطويل نسبياً نقرأ أن "عمصدق... كبري مصرن ومعن مصرن" أي أن "عم صدق (كان) حاكماً، (أو والياً) لمصر ومعن المصرية". هذا الاكتشاف الأثري المثير أثار في حينه عاصفة من النقاش الحاد بين اتجاهات عديدة كانت تسود علم التوراة. لكن ذلك النقاش الحيوي حقاً، حسم برحيل جيل لامع وقدير من علماء التوراة والمستشرقين"

   كما اتجه آخرون مثل فاضل الربيعي إلى إجراء تعديل في الموقع قليلا وأصدر عدة كتب تتحدث عن التوراة الحميرية اليمنية ثم أردف بكتاب آخر فجعل المسيحية أيضا دينا نجرانيا نشأ في نجران، فاليهودية والمسيحية كلها اديان يمنية صرفة خرجت للعالم عن طريق هجرة اليمنيين إلى الشمال، وكان للخميين دور في ذلك حسب روايته، ورأى ان "بيت لحم" في فلسطين الذي ارتبط بقصة المسيح هي جاءت في الأصل "بيت لخم" أي القبيلة التي منها الملوك المناذرة في الحيرة. وقد تبعهم في ذلك جماعة في البحرين أصدرت كتابا اسمه "نطق السراة"، والكتاب يسير إلى أن التوراة نزلت في السراة بما يوافق نظرية الصليبي، ثم كتب الدكتور أحمد سعيد قشاش كتاب "أبحاث في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة"، وذهب لنفس المذهب وقدم استشهادات  أخرى من الأسماء، وهنالك من كتب الحجاز أرض التوراة.

ومن الملاحظ على معظم هذه الكتب هو الإمعان في المقارنات اللفظية والتقريب والمقابلة اللغوية، بالإضافة للاستئناس بدلالات غير مباشرة لبعض النقوش (اليمنية فقط) والإشارات التاريخية عند الهمداني وسواه أو الأخذ بفهم محدد غير مباشر لبعض الاحاديث النبوية، ولكن لا يوجد أي إشارة ذات دلالة واضحة المعالم تدل على ذلك كالنقوش أو الوثائق القديمة المعاصرة، كما ان معظم هؤلاء يربطون تواريخ الهجرات إلى الشام وانتقال المفاهيم إلى هنالك إلى مرحلة متأخرة وغالبا تقرن بالأحداث الواردة في المصادر العربية عن التاريخ اليمني.

صدر بعد هذه الكتب كتاب للدكتور  عصام سخيني عام 2018م وهو كتاب "تهافت القصص التوراتي" واستعرض الدراسات التي انتهت إلى التشكيك في حقيقة القصص التوراتي ابتداء من بورفيراس (ت306)، مرورا بابن حزم (ت1064م)، وانتهاء بجوستا أولسترام (ت1992)،  كما استعرض الكتب العربية التي أيدت القصص التوراتي ومن ذلك استحضر كتب أصحاب النظرية العسيرية واليمنية، ووجه نقدا لهذه الكتب، ولكل من أيد القصص التوراتي في العموم، وقد كان مما استشهد به على اخطائها رسائل تل العمارنة التي ذكرت أورشليم في القر ن الرابع عشر قبل الميلاد، ورغم أن رسائل تل العمارنة التي أوردها الدكتور سخيني أوردت ضمن ما واردت الرسائل القادمة من جهات بلاد الشام في نفس المرحلة (ق14ق.م) وهي تشير إلى شكاوى الأهالي من مهاجمة جماعات من الرحل يسمون (العبيرو) للممالك الموجودة هنالك، إلا أنه اعتبر انه قد ثبت أنها لا تعني اليهود العبرانيين بل مجموعة من شذاذ الآفاق من أصول مختلفة، ولكنه لم يستكمل الحديث حول كيف ثبت ذلك.

   إن رسائل تل العمارنة بشرق الدلتا بمصر تبين أن العبرانيين تواجدوا في فلسطين وبلاد الشام (بلاد كنعان) منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد بل وتشير الرسائل الموجهة من الشام ومن جهات فلسطين وسوريا ان قوما اسمهم (العبيرو) قد كانوا يهاجمون الممالك المحيطة في تلك المرحلة ويوافق هذا ما ورد في التوراة حيث جاء ان إبراهيم تنقل وخاض حروبا مع الملوك الموجودين هنالك، كما ذكرت "أورشليم" في هذه الرسائل ست مرات على الأقل، بما يدل على أن أورشليم في فلسطين سابقة لما ذكر فاضل الربيعي الذي ربطهم باليمن وحدد هجرتهم منها إلى الشمال عام 200ق.م، وأشار إلى ان أورشليم هو اسم بناء في اليمن.

بعد ذلك صدر كتاب للدكتور عبدالله بن احمد الفيفي باسم "تاريخ بني إسرائيل وجزيرة العرب" وشن الفيفي هجوما لاذعا على كل من كتب حول هذا الموضوع واستعرض استدلالاتهم في هذا الموضوع وأبرز مدى هشاشتها حسب ما رآه. ثم أشار للدلالات على مصداقية الأخبار التوراتية إلى حد بعيد من خلال استعراض رسائل تل العمارنة التي ذكرناها ومدى مطابقتها للقصص التوراتي، ثم أورد المخطوط البردي الهيروغليفي الذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم  (الهابيروس : العبرانيين) ليسوا بمصريين، كانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. ويقول يبدو أن هذا اللقب يشير إلى العبرانيين الذين جاءت الإشارة إليهم في رسائل الكنعانيين المعثور عليها في (تل العمارنة) وقد وردت الإشارة لهذا التسخير في سفر "الخروج" هكذا: "فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل ..."

كما أورد الباحث ما نقله ويل ديورانت عن (جاستانج)، عضو بعثة (مارستن) التابعة لجامعة ليفربول أنها كشفت في مقابر أريحا الملكية أدلة تثبت أن موسى قد أنقذته من الموت الملكة حتشبسوت عام 1527ق.م، فتربى في بلاطها، ثم فر من مصر حين تولى الملك تحوت موسى الثالث عدو حتشبسوت.

ولم يرد لدى الباحث ما يدل على أكثر من ذلك حول التفاصيل من مصدر المعلومة.

   من خلال ما تقدم نجد أن هنالك من الأدلة مما يوازي مرحلة أحداث التوراة بالضبط في كل من رسائل تل العمارنة التي تثبت وجود أورشليم في بلاد كنعان في القرن 14 ق.م، ووجود العبرو (العبرانيين) في بلاد كنعان (الشام) ونشاطهم القتالي كبدو في نفس المرحلة، وتؤكد ما ورد في التوراة عن أخبار النبي إبراهيم عليه السلام المعاصر لهذه المرحلة.

كما أن المخطوط البردي الهيروغليفي الذي أورده الأستاذ الفيفي والذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم (الهابيروس : العبرانيين) وأنهم ليسوا بمصريين، وكانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. يؤكد ما ورد في التوراة والقرآن حول استعباد المصريين لبني إسرائيل والتي كانت جزء منها قصة موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم.

   ومن خلال ما تقدم فإن قصة وجود اليهود في بلاد كنعان بما يوازي مراحل نزول التوراة حسب زعم اليهود مطابق لما تحمله الوثائق والنصوص المعاصرة لهم ومن ثم فإن الحديث عن نزول التوراة أو ارتباط القصص التوراتي بمنطقة عسير أو اليمن أو السراة أو الجزيرة العربية في العموم لا صحة لها كما يظهر لنا، إلا ان ذلك لا ينفي وجود ثغرة ما تتعلق بتشابه الأسماء والتقاليد إلى درجة كبيرة بين مناطق في عسير ومناطق يهودية ككريات أربع والتي يقابلها قرية الأربوعة   أو قرية الربوعة، وغيرها وهنالك أسماء والفاظ يهودية متكررة كثيرا في منطقة عسير وبلاد السراة عامة بعيدا عن تلك التي أثارت سخرية الاستاذين الفيفي وسخيني، ناهيك عن تلك الذوائب التي كان العسيريون يطلقونها على جانبي اكتافهم على نفس نمط الزنانير اليهودية.

لقد درج العرب منذ بدء التدوين على ترسيخ مفهوم مركزية جنوب الجزيرة العربية في التاريخ العربي، ولعل هذا يعود لأثر سكان الجزيرة العربية في التاريخ العربي منذ فجر الإسلام، ولربما تأثر بعض الدارسين الغربيين بهذا المفهوم المتوارث فخرجت الكثير من النظريات التي لا زالت تحمل في خلفيتها فكرة الهجرة من الجنوب للشمال، وتفترض أن الهجرة لا يكون لها من سبب إلا البحث عن الرزق عندما يضيق في الموقع، بينما الهجرات لها أسباب كثيرة لعل من أهمها الحروب خاصة عندما تكون الامة مهددة من أمم أخرى تفوقها عددا وعدة.

إن التشابه بين اليهود واهل السراة في نمط الأسماء وفي الذوائب الملوية والمنسدلة من جانبي الرأس لا يخص الجانبين فقط فقد كان البابليين مثلا يطيلون شعورهم ويسدلونها على الجانبين ويدهنون أجسامهم بالسمسم على نمط أهل تهامة. والقواسم بين الجانبين في اللغة كثيرة جدا وسبق ان تطرقت لبعضها وهنالك المزيد.

ومن هنا نقول بأن صلة اليهود بالعرب سكان الجزيرة العربية ومنهم أهل السراة هي صلة جوار قديم، وصلة قربى قديمة، عندما كانوا جميعا في بلاد الشام وما بين النهرين قبل هجرة العرب وبعض العبرانيين للجنوب وبقاء بعضهم هنالك.

وللحديث تشعبات كثيرة نكتفي منها بما ذكرنا.



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق