الأربعاء، 17 نوفمبر 2021

"عسيري" أم "العسيري"

عسيري أم العسيري ال التعريف استخدمت في اللغة العربية لتعريف الأسماء النكرة، وللوصل لتمييز الصفات، وهي تأتي مع ياء النسبة عند العرب فيقال علي القرشي ومحمد الهاشمي وسعيد الثقفي وهكذا، ولكنها لا تستخدم مع الأسماء غير المختومة بالياء حتى ولو كانت نسبية فيستخدم بدلا منها (ابن) فيقال علي بن هاشم، وقد تستخدم (آل) فيقال مثلاً محمد آل حاتم، وهكذا، وهذا هو الأصح على العموم، إلا أن اللهجات تأخذ طابعا مختلفا في بعض الأحيان فمثلا في الشام لا يستخدمون ال التعريف مع ياء النسبة في بعض الحالات، لذا نجد أسماء أعلام ومثقفين كـ"نزار قباني" و"غسان كنفاني" و"حسام عيتاني" و"عصام سخيني" وهكذا، ومثله نجد في بعض الحالات في مناطق تهامة أو غيرها، والأمر لا يحمل فرقا من حيث القيمة المعنوية أو الأصالة لمن حمل هذا الاسم أو ذاك. ومن الملاحظ أن قبيلة عسير بالذات في المملكة العربية السعودية يحمل جزء من أبنائها اسم القبيلة في بطاقة الأحوال بدون أل التعريف فيقال "منصور عسيري" أو "سعد عسيري" وهنالك من يحمل أل التعريف في اسمه فيقال منصور العسيري أو سعد العسيري. والغريب ان هنالك أسر تتنوع في حمل الاسم، ومن ذلك أسرتي، فوالدي اسمه "احمد العسيري" هكذا في بطاقة احواله وفي حفيظة نفوسه الصادرة عام 1384هـ، ومعظم اخوتي يحملون أل التعريف في أسمائهم، بينما انا وأحد أخوتي وأخواتي لا نحمل ال التعريف، وكنت قد تقدمت إلى الأحوال المدنية عدة مرات لمساواة الاسم بوالدي، لدواعي توحيد المسمى وللنواحي القانونية، إلا ان الإجراءات كانت معقدة، وفي كل مرة يكون هنالك عائق ما. والحق أني لا أجد فرقا بين أن يقال لي العسيري أو عسيري، فكلاهما سيان، إلا أنني أفضل استعمال اسم "العسيري" في تدوين اسمي على كل ما اكتبه، وكل ما في الأمر أنني أضع الاسم الذي أتوقع أن يبقى لأنني بصدد التصحيح، وسأظل كذلك إلى أن يصحح الاسم. ولكني أشعر أحيانا بأن من يقرأ اسمي في البطاقة يعتقد أن الموضوع يحمل هما بالنسبة لي، بل إني وجدت أن من يحمل لي الحنق يتعمد استعمال اسم "عسيري" بدلا من "العسيري" ومن يحمل لي الود يستعمل اسم العسيري ظناً من الطرفين أن الأمر ذا بال، وعلى العموم لكلٍ أن يدعوني بالإسم الذي يرغب، فلا مشكلة لدي، وأذكر أثناء العمل ان أحد المراجعين عندما ذكرت له اسمي بدون ال التعريف أخذ يخبرني عن خطأ قول اسم القبيلة بلا أل التعريف، فقلت له من باب الدعابة بأن التعريف للاسم النكرة أما المعروف فلا يعرف. وقد ثار التساؤل بين العسيريين عن أسباب ذلك، فكانت التفسيرات مختلفة، فهنالك من يدعي بأن هذا النمط موجود في تهامة، والجزء الأكبر من قبيلة عسير خارج المنطقة هم من تهامة عسير، فطغى نمطهم على الجميع، وأما آخر فقد فسر الأمر بأنه راجع لكون عسير اسم منطقة، فظن الجميع أنهم يحملونه نسبة إلى المنطقة، ومن ثم لم يتم التعامل مع الاسم كاسم قبلي في المناطق الأخرى، وبالتالي خرجت حفائظ النفوس للعسكر الذي يحيلون اسمهم الى عسير بدون أل التعريف. وقد وجدت ان هنالك من أصبح يلمز قبيلة عسير بذلك، مع أنه أمر لا أهمية له بالنسبة لكل من عرفتهم من العسيريين، هذا رغم تساؤلهم عن السبب في ذلك، خاصة وأن أسماءهم القبلية المحلية التي يحملها بعضهم، لا بد أن تحمل أل التعريف ولا تنطق ولا تتداول بينهم ولا تكتب إلا كذلك، مثل المغيدي، والعلكمي، والمالكي، والرفيدي والالمعي وما إليها. بينما عندما يتعلق الأمر بالقبيلة الأم فستجد جزء كبير بدون أل التعريف!. للتعمق في أبعاد وأسباب هذه المسألة، وبداياتها سنعود إلى بدايات العهد السعودي الحديث، في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، ونتجول بين الأسماء في تلك المرحلة، لنجد بأن أل التعريف لم تكن حاضرة في الأسماء المدونة بنفس الدرجة التي شاعت في مرحلة لاحقة، فكل القبائل والأسر الأخرى كانت تدون بدون ال التعريف، فقد وجدت بعض القوائم الدالة على ذلك، ومنها قوائم شهداء الجيش السعودي في حرب 1948هـ مثلاً، فقد كانت الأسماء القبلية في بيانات الأسماء التي دونت في نفس المرحلة، معظمها بدون ال التعريف مثل: "غانم قحطاني" و"محمد شهري" و"حامد شمراني" و"علي قرني" و"سعد عسيري" وهكذا !. صور لقوائم أسماء شهداء حرب 1948م من الجيش السعودي رحمهم الله.
وحتى أسماء الأسر في المملكة العربية السعودية لم تكن تنطق بأل التعريف، فيما عدا من تحمل ياء النسبة أو الأسماء الوصفية الدالة على صفة كالطويل او العريض أو الخياط وهكذا. فقد كانت الأسماء الأسرية كلها في المملكة تنطق بنفس الطريقة، فيقال ابن سعيد وابن سويد وابن سويلم وأبن حسين وهكذا، ويكفي ان ننظر إلى كتاب ابن غنام أو ابن بشر لنرى ان الأسماء الأسرية كانت تنطق بدون ال التعريف، وهو النمط العربي القديم للأسماء، الى ان أضيف لها ال التعريف في حفائظ النفوس، فأصبحت تبدو وكأنها وجدت كذلك، وبرفقه أسماء طلبة العلم على يد المشايخ عام 1355هـ في مدينة الرياض، ونلاحظ أن الأسماء على وجه العموم تنطق بدون ال التعريف فيما عدا الحالات الخاصة كالتي حددناها.
لذا فمن الواضح أنه تم تنظيم طريقة تدوين الأسماء، واضافة أل التعريف بشكل جيد إلى أسماء القبائل والأسر مع بداية انشاء إدارة الجوازات والجنسية وإصدار حفائظ النفوس، ومن ثم فإن كلاً أضيف لاسمه أل التعريف، ما عدا جزء من العسيريين لم يضف لأسمائهم ال التعريف، فظلت أسماؤهم القبلية في هوياتهم مرتبكة، والأسباب ربما تتعلق بتصنيف اهالي بعض المناطق الأخرى أو الموظفين الانتساب لـ "عسير" كانتساب إلى منطقة لا إلى قبيلة. ومن ثم نقول للعسيريين وغيرهم ممن يتساءلون عن هذا الاختلاف: "كلنا في الهوى سوى"، وتظل الأسماء دالة على أشخاصنا وأسرنا وقبائلنا، ولا قيمة لها ولا لطريقة نطقها إلا بما كان للأشخاص ذاتهم من قيمة.

الاثنين، 18 أكتوبر 2021

مِمَّنْ قريش

كثر الحديث واللغط حول حقيقة التحور الخاص بقريش رغم أن الأمر في غاية الوضوح، ولكن ربما غُمَّ على البعض فلم يتمكنوا من رؤية الحقيقة، هذا إذا جنبنا الهوى الذي نعي بأنه حاضر في الكثير من الحالات. وقبل أن نبدأ نقول بأن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، ولو أن الله اصطفاه من أي قبيلة في أقصى الأرض سيظل هو سيد البشر وخيرهم، وسيظل لقبيلته حق أن تباهي الدنيا بأن الله اصطفى نبيه منهم، ولا يوجد بعد الفخر برسول الله فخر، وحق لقريش أن تباهي برسول الله، ولكن لا شك أن هذا الاصطفاء والتفضيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرتبط بمضريته ولا نزاريته ولا معديته، بل هو اصطفاء لذاته، فلا ثابت لدينا إلا ان محمد صلى الله عليه وسلم من قريش، وقد ورد في صحيح مسلم أنه من كنانة وهو أمر نصدقه بدرجة عالية للثقة في المصدر، ولكن لم يتفق عليه في الصحيحين. لذا سنحاول هنا أن نستقرئ أخبار قريش وما ورد عنها سواء في الحديث الشريف أو الأثر أو في الروايات المختلفة فيما قبل تدوين كتب الأنساب ونحاول الوصول إلى دلالاتها، ومدى توافقها مع نتيجة قريش واضحة المعالم التي رأيناها جميعا، بانقسام الهاشميين تحت التحور L859 وتوزعهم تحته بما يتوافق مع المدون تاريخيا، سواء الحسنيين أو الحسينيين رغم افتراقهم منذ القرن الهجري الأول بين العراق والمدينة المنورة واليمن والشام وبلاد فارس والهند، ثم خروج نتائج أبناء عمومتهم الجعفريين (الجعافرة) في المدينة المنورة، أبناء جعفر بن أبي طالب ـ أمراء المدينة حتى عام 266هـ ـ، والذين عاصرهم بها، ونقل عن عدد منهم: أبو علي الهجري في القرن الثالث، وقد جاءت نتائجهم تحت التحور FGC67360 المتفرع من التحور L859 وخارج التحور الخاص ببني علي بن أبي طالب وهو FGC10500، ثم خروج قريش الأعاضيد وقريش المغمس في مكة والطائف تحت نفس التحور القرشي L859، وخارج التحور العلوي الطالبي، ومن ثم فإن التحورات جاءت مطابقة للرصد التاريخي الذي تم لهذه الأسرة، وجاء مطابقا لتحورات قريش المنفصلين عنهم، والذين لا زالوا يحملون مسمى القرشي في بلدتهم التاريخية. إن الإشكال الحاصل في فهم سبب هذا الخروج عن سياق المفهوم المتوارث حول موقع قبيلة قريش المفترض حسب هيكل النسب الذي وضعه ابن الكلبي في كتابه جمهرة النسب يرجع في أساسه إلى عدم مراجعة حقيقة الهيكل النسبي القديم، وعدم الاهتمام بتقييم هذه المشجرة، والانسياق العاطفي خلف المفاهيم التي ترسخت لدينا حول هذه التقسيمات القديمة ومحاولة الوقوف عندها بالضبط، والرغبة في اثبات صحتها على أي حال، واثبات مواقعنا التي نقررها منها. والحقيقة أن الأنساب القديمة هي مدار نقاش علمي منذ كتابتها، إذ نجد هنالك من ألمحوا إلى وجود ثغرات بها مثل أبي عمرو بن العلاء وابن سلام، وغيرهم، كما أنها أصبحت محل مراجعة منذ قرنين بين الباحثين في علم التاريخ والآثار واللغويين والباحثين في السلالات البشرية والأنثروبولوجيا، ومن ثم فقد خرجت الكثير من الدراسات النقدية التي فندت المفاهيم القديمة للأنساب من خلال فك رموز اللغات والأبجديات القديمة في المنطقة، وبالتالي قراءة العديد من النقوش التي أفرزت مفاهيم جديدة حول الهجرات والأنساب والصلات، إلى ان جاء علم السلالات الجينية فأكد وجود الخلل في الأنساب القديمة، وأثبت أن هنالك ثغرات واضحة لا يشوش عليها إلا عواطفنا. لقد كتب الكلبي كتابه في نهاية القرن الثاني للهجرة، فكان أساسا لعلم الأنساب، بنى عليه كل من بعده في انتاج كتب أنساب جديدة لم تكن إلا عيَّال على كتابه. وقد اتهم الكلبي بالكذب والتدليس، ولعله هو بذاته قد أقر بوجود نوع من الألاعيب والصفقات في كتابة الأنساب عندما أشار إلى أن بعضهم طلب منه إخراج دعبل الخزاعي من نسب الأزد مقابل عطاء له، فاعترض على طلبهم بقوله: "وهل تتخلى الأزد عن دعبل ؟"، بمعنى أنهم لن ينجحون في ذلك لأن الأزد لن تتخلى عن دعبل، وسيكذِّبون من أخرجه، ومن ثم فإن الكلبي بذلك يقر بوجود هذا النوع من التعاقدات خلف الأستار، وعليه فإن ما أورده الكلبي رغم أهميته، وكونه يحمل درجة من المصداقية في بعض النواحي إلا أنه كان هنالك الكثير من غير ذلك. هنالك عوامل كثيرة لا بد أنه كان لها تأثير ما على تدوين هيكل الأنساب القديمة، منها اعتماد المصادر الشفهية التي لا نتوقع أن تحفظ أكثر من 7 أجيال من الآباء، ومنها اعتماد المصادر التوراتية التي شابها الكثير من التحريف، ومنها العاطفة وحب التفاخر وأثرها، ومنها التدخلات والمصالح، ولعل من أهم ما يمكن ان نتوقع تدخله في الانساب هو السلطة، التي لا شك أن أنساب القبائل وصلاتها ببعض تعني لها الكثير في تلك المرحلة، فقد وجدنا في الأثر ما يدل على استغلالها للمماحكات القبلية بين قبائل العرب لتكريس سلطتها. وهنا سنتحدث عن قبيلة قريش المضرية (حسب كتب الانساب)، وما دلالات مضريتها، وماذا عنت مضريتها للسلطة ولمضر، وما هو المفهوم القديم عنها. عندما نرجع لبدايات مفهوم نسب قريش وصلتها بالقبائل الأخرى نجد أن هنالك اختلاف في الروايات والخطاب الموجه لقريش وتعريف قريش لذاتها، وتدرج في المفهوم بين مرحلة وأخرى، بينما نجد أن الكثير يستشهدون بهذه الروايات والأحاديث حسب ما يرون من الدلالة الظاهرية لها كنصوص جامدة دون تعمق، ، فيعتبرونها دالة على المضرية، بينما قد لا تكون كذلك، أو قد لا تصح، وسنحاول هنا عرض بعض هذه النصوص واستقراء دلالاتها، ومنها التالي: أولاً: "كاذب ربيعة خير من صادق مضر" 1) كتب مسيلمة بن حبيب الحنفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب، .. إلى آخر الحديث" 2) وحتى بعد أن بدأ مسيلمة يقرأ ما يدعيه من الوحي فقد ظل على الإشارة لقريش كند لقبيلته فكان يقول: " ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، ..........، لنا نصف الارض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "! 3) بينما روى الطبري (وغيره) عبارة جاءت على لسان أحد ربيعة، وبلغت شهرتها الآفاق، قال: "كتب إلي السري قال حدثنا شعيب عن سيف عن خليد بن ذفرة النمري عن عمير بن طلحة النمري عن أبيه أنه جاء اليمامة فقال أين مسيلمة؟ قالوا مه رسول الله؟ فقال لا حتى أراه، فلما جاءه قال أنت مسيلمة، قال نعم، قال من يأتيك؟، قال رحمن، قال أفي نور أو في ظلمة؟، فقال في ظلمة، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" • نلاحظ في الروايتين الأولى والثانية أن مسيلمة كرر الإشارة لقريش كَنِدٍّ لقبيلته، وكأن مضر لم تكن حاضرة لديه، وهو الذي ادعى النبوة في كل ربيعة، فانتقل بدعوته من الهدار إلى الخضرمة. إلا أننا نجد في الرواية الثالثة أن طلحة كان ينظر لمضر كندّ لربيعة، ونلاحظ أن عبارته ـ التي لاقت شهرة كبيرة ـ بقدر ما هي تحمل من القصدية في تكريس مفهوم مضرية قريش فهي أيضا تكرس مفهوما للتنافس بين ربيعة ومضر الذي يرقى لرفض الربيعيين نبوة محمد حتى لو كان صادقا ما دام مضريا. ولعل هذه العبارة تمثل أشهر وأصرح العبارات الدالة على سيادة مفهوم مضرية قريش منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هل تصح هذه الرواية ؟. عندما نعود إلى مصدر الرواية الأخيرة نجد أن مدارها على سيف بن عمر التميمي (توفي عام 185هـ) في كتاب "الردة والفتوح"، وهو زنديق ساقط الرواية عند كل رجال الحديث. يقول عنه محمود شاكر: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط، هذا مختصر ما قيل عنه، والكلام حول ذلك كثير. ومن خلال توقيت ظهور الرواية خلال النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، فالواضح أنها جاءت في مرحلة متأخرة، شاع قبلها وخلالها مضرية قريش كما سيأتي معنا. ثانياً: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ 1) روى البخاري في صحيحه، قال: "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ". • حضر بنو عبدالقيس لرسول الله (ص) في العام التاسع للهجرة وكان النبي في المدينة المنورة، وقولهم بيننا وبينك تدل على أن كفار مضر كانوا بين المدينة وبلادهم، وقد جاء وفد عبدالقيس من نجران مرة ومن البحرين أخرى، وقولهم "بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر" يدل على امتداد الكفار المضريين المقصودين على المناطق الفاصلة بين البحرين أو نجران وبين المدينة، وهذا لا يكون لقريش التي كانت تقيم بتهامة في مكة بالضبط، وما كان لها يد على الطريق بين البحرين ويثرب ولا ما بين نجران ويثرب، ومن ثم فلا دلالة نرجوها من هذا الحديث، إلا ان يكون قولهم مضر، في الإشارة لسوى قبيلته، وهو ما يعني استبعاده من هذا النسب وإلا لقالوا من كفار قومك أو لذكروا أسماء القبائل التي يخشونها. ثالثاً: دعوة النبي على قريش ومضر 1) حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا، لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا العِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ، قَالَ: «لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ » فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ 2) روى البخاري أيضا، قال: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ " وَأَهْلُ المَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ. • نلاحظ هنا قول الراوي أن أهل المشرق يومئذ من مضر مخالفين له، فالدعاء على مضر لم يكن على قريش، بل هو موجه إلى مضر في المشرق، ولعل هنا دلالة، تشير إلى افتراق قريش عن مضر في مفهوم رسول الله (ص)، وفي مفهوم الراوي، وتعقيب الراوي يشير إلى أن من حضروا للنبي (ص) في الرواية الأخرى لم يكونوا من قريش. رابعاً: السؤال عن اصل قريش: 1) جاء في البخاري: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ ، حَدَّثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ: قُلْتُ لَهَا: " أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ، مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ " 2) جاء في صحيح البخاري: "حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا كُلَيْبٌ، حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالمُزَفَّتِ» وَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ مِنْ مُضَرَ كَانَ؟ قَالَتْ: «فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ» 3) جاء في كتاب تهذيب اللغة للأزهري: "حدثَنَا محمدُ بنُ إسحاقَ السَّعْدِيُّ عَن الرَّمَادِيِّ عَن عبد الرزاقِ عَن مَعْمَرٍ عَن أَيُّوبَ عَن محمدِ بنِ سِيرِينَ: قَالَ سَمِعت عُبَيْدَة يَقُول: سَمعْتُ عَلِيّاً يَقُولُ: من كَانَ سَائِلًا عَن نِسْبَتِنَا فإِنَّا نَبَطٌ من كُوثى."، ورُوِي عَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ: سألَ رَجْلٌ عَلِيّاً: أَخْبِرنِي يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ عَن أَصْلِكُمْ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ فَقَالَ: نحنُ قَوْمٌ من كُوثَى. 4) جاء في كتاب تهذيب اللغة: "وَنَحْو ذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: نَحْنُ مَعَاشِرَ قُرَيْش حَيٌّ من النَّبَطِ من أَهْل كُوثى”. • نلاحظ في الفقرات 1 و2 و3 تكرار السؤال عن أصل قريش، أي أن هنالك تواتر في الإشارة على حالة حيرة سادت مرحلة ما بعد وفاة رسول الله، أو مرحلة علي بن أبي طالب في العراق، حول أصل قريش، حيث نجد ذلك في سؤال كليب لزينب عن نسب الرسول (ص) هل هو من مضر، وقوله: ممن كان، أمن مضر كان؟. وقول السائل في الآخر: " أَخْبِرنِي يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ عَن أَصْلِكُمْ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ"، وفي قول علي في الرواية الأخرى: "من كان سائلا عنا"، والتواتر يعطي مصداقية أكثر للروايات. كما نلاحظ اختلاف الجواب حسب المرحلة، ففي السؤال المعاصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (توفي عام 40هـ) أجاب بأنهم من نبط كوثي، أي من نبط العراق، ويقصد بذلك النسب لإبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي كان في العراق، وهو ما يستبعد معه وجود مفهوم سائد حول النسب المضري لقريش، ولا غرابة فالسؤال كان قبل عام 40 للهجرة، حيث كانت الأمور أكثر تلقائية، بينما كانت زينب التي عاشت إلى مرحلة متأخرة (توفيت عام 74هـ)، وعاصرت عصر معاوية ويزيد ومروان وعبدالملك، حيث سادت مفاهيم جديدة حول الأنساب العربية، منذ عصر معاوية الذي كان يجتمع في مجلسه الرواة والشعراء من القبائل ممن بدأت المفاهيم الحديثة للأنساب على أيديهم، وهو ما جعلها تجيب بالسائد في حينه وهو المضرية، هذا رغم أن الإجابة ذاتها فيها اضطراب لقولها فممَّن؟، وكأن لسان حالها: (إذ لا يوجد بديل، فهو كذلك). ومما سبق فإن الروايات التي يحتج بها البعض لإثبات مضرية قريش لا تقوِّمُ حجة ولا يستقيم بها رأي، بل هي تشهد على مجهولية وجود علاقة بين قريش ومضر إلى ما بعد الخلفاء الراشدين، والراجح لدينا أن مضرية قريش كان قرارا أمويا عززته الأحداث، واتفقت عليه الأطراف، التي استفادت منه، كعقد بين السلطة وجزء من الرعية كونت العصبية للسلطة، فحرص الجميع على استمراره حتى ترسخ، وتم صياغته في زمن العباسيين، واصبح مسلمة، إلى ان جاء الدي ان أي (DNA) فأظهر حقيقة خطئها. والله أعلم.