الاثنين، 18 أبريل 2022

جادة التاريخ العسيري ... كتاب أدنى من درجة الكمال ولكنه فوق الشبهات

 نسعى دائما لإتقان اعمالنا ولكن عمل الإنسان يظل ناقصا مهما اجتهد فالكمال لله ومهما اعتنيت سيأتي من يجد ان هنالك ما يجب اضافته لعملك وما يحتاج لتصحيح.

كما أن عملنا مهما كان بريئا صادقا فالناس منه على اختلاف بين من يهنئك على هذا العمل الرائع ومن يتهمك ومن يعترض على كل عملك ومن ينتقص عملك لمآرب أخرى، وكل له توجهه الذي يعلمه الله.

جادة التاريخ العسيري

   هذا الكتاب سعيت جاهدا لأن اتجرد فيه للحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وما ورد فيه لم يخرج عما ذكرته قبل اثنين وثلاثين عاما عندما قرأت امتاع السامر، وقبل عشرين عاما عندما جادلت حوله في المنتديات، وعما كتبته في كتاب "عسير والتاريخ ..." عام 2011م.

   فقط أضفت ما كنت ألمح إليه هنالك إيحاءً إلى النص الأساسي هنا بشكل صريح، فلا شيء أهدف الوصول إليه سوى الحقيقة، ولكنني رغم ذلك حاولت أحيانا أن أغلف هذه الحقيقة بغلاف جميل بما يمنع سوء الظن بالنوايا، كي لا أثير ردة فعل تثير نعرات أكون سببها. إلا أنني حرصت دائماً على أن لا يكون ذلك على حساب إظهار الحقيقة.

   فلا يوجد في  الكتاب أي نص او عبارة يمكن أن تسيء إلى الوطن وتاريخه، فالحقيقة التاريخية لا تسي أبدا للوطن، فالوطن شامخ بتاريخه وبرجاله الذين صنعوا هذا التاريخ، وكم أتمنى من كل من يرى في هذا الكتاب ما يفترض ان لا يكتب أن يحيطني بذلك. لأناقشه حول ذلك ويرى وجهة نظري، ولا مانع لدي من تغييرها عندما أجد أنني خرجت عن (الجادة) التي عنونت بها كتابي. 

 وقد استبعدت من هذا الكتاب قبل نشره فقرات لم اتمكن من التحقق منها بشكل كامل أو لنقل بشكل معقول، خاصة وأن الذاكرة أحيانا تستدعيك إلى البحث عن ابرة في كوم قش في فلاة. فتعطل كل عمللك بحثا عن عبارة تتذكر وجودها في احد الكتب الفوضوية كإمتاع السامر، لذا فقد تجاهلتها لوجود ما يكفي من الدلالات على الفكرة المراد إيصالها.

 وقد تمكنت من الوصول لإتمام إحدى هذه الفقرات، وسأضيفها للكتاب.

   سأعيد طباعة الكتاب الكترونيا متضمنا هذه الفقرة/الفقرات، وسأعمل بعد ذلك على طباعته ورقيا، وسأسعى ما استطعت لاعتماد ثلاثة من الكتب وهي كل من:  "الدرر المفاخر في أخبار العرب الاواخر" و"كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب"، و"لمع الشهاب في سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" من قبل دارة  الملك عبدالعزيز بصفتها كتب منحولة ووثائق مزيفة كجزء من عملية تزوير كبيرة على غرار كتاب "امتاع السامر بتكملة متعة الناظر" الذي لم يكن إلا جزء منها. 

والله الموفق



الاثنين، 11 أبريل 2022

حول نظرية أن التوراة خرجت من جزيرة العرب

 


التوراة أو كتاب العهد القديم هو كتاب اليهود الذي يحوي قصصهم التي ورد جزء كبير منها في القرآن، ولكن كان في بعضه اختلاف ببين الكتابين، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا نكذِّب روايات اليهود ولا نصدقها. ومن ثم فإن التعامل معها يفترض أن يكون باعتبارها مصادر تاريخية قابلة للصحة او الخطأ، فهذا لا يتعارض مع ما قاله النبي (ص).

  ونحن عندما نقرأ الأخبار الإسرائيلية في التوراة نجد أن هنالك الكثير من المعلومات التي تتوافق مع النقوش الآشورية والأكادية والمصرية المختلفة فيما يخص الألفية الأولى قبل الميلاد، وربما امتد هذا التوافق إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث وجدنا أن أخبار العرب والقيداريين والتيمائيين والنبايوتيين والميديانيين والآراميين وسواهم ممن ذكرتهم التوراة ـ ممن لم تحط بهم الكتابات الكلاسيكية ـ موثقين في المسلات الآشورية مما يدل على مصدرية التوراة بالنسبة لهذه المرحلة، مع الأخذ في الاعتبار التحريف الذي تعرض له التوراة على أثر النزوع للمبالغة والذات المتضخمة عند اليهود.

 ولكن هنالك من لهم آراء أخرى!.

   منذ أن فجر الدكتور كمال الصليبي نظريته حول الجغرافيا التاريخية لروايات التوراة اليهودية في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" والتي توصل فيها من خلال المقارنات بين الأسماء هنا وهناك وإحالة بعض الإشارات لمفاهيم أخرى، إلى أن التوراة تتحدث عن قصص واحداث كانت في إقليم عسير في جبال السراة وما إليها شرقا وغربا، وقد أورد الكثير من الأسماء والشواهد التي رآها تسير إلى النتيجة التي وصل إليها، ورأى بأن المصريين كانوا يقومون بتأمين خشب العرعر من عسير (وليس من أرز لبنان) كمادة للبناء ولتعمير السفن، وقد طبع الكتاب بداية باللغة الألمانية ثم ترجم للعديد من اللغات واحدث جدلا في الأوساط العلمية، وقد نشط الدكتور كمال بعده لفترة وألقى عددا من المحاضرات ثم خبا نشاطه.

ولكن ظهر بعده مريدون لطريقته من كل حدب، فقد كتب بعده زياد منى كتاب "جغرافيا التوراة مصر وبنو إسرائيل في عسير"، وقد واصل منى ما بدأه الصليبي وتحدث عن الشواهد والدلالات في الأسماء والنقوش وفي الاحاديث النبوية والقرآن التي رأى أنها تشير إلى أن اليهود عند نزول كتاب التوراة كانوا في عسير، ومما استشهد به "النقش (G11 155)  لعالم الآثار النمساوي إدوارد غلازر Eduard Glaser الذي عثر عليه في اليمن في مطلع القرن الحالي. وفي هذا النقش الطويل نسبياً نقرأ أن "عمصدق... كبري مصرن ومعن مصرن" أي أن "عم صدق (كان) حاكماً، (أو والياً) لمصر ومعن المصرية". هذا الاكتشاف الأثري المثير أثار في حينه عاصفة من النقاش الحاد بين اتجاهات عديدة كانت تسود علم التوراة. لكن ذلك النقاش الحيوي حقاً، حسم برحيل جيل لامع وقدير من علماء التوراة والمستشرقين"

   كما اتجه آخرون مثل فاضل الربيعي إلى إجراء تعديل في الموقع قليلا وأصدر عدة كتب تتحدث عن التوراة الحميرية اليمنية ثم أردف بكتاب آخر فجعل المسيحية أيضا دينا نجرانيا نشأ في نجران، فاليهودية والمسيحية كلها اديان يمنية صرفة خرجت للعالم عن طريق هجرة اليمنيين إلى الشمال، وكان للخميين دور في ذلك حسب روايته، ورأى ان "بيت لحم" في فلسطين الذي ارتبط بقصة المسيح هي جاءت في الأصل "بيت لخم" أي القبيلة التي منها الملوك المناذرة في الحيرة. وقد تبعهم في ذلك جماعة في البحرين أصدرت كتابا اسمه "نطق السراة"، والكتاب يسير إلى أن التوراة نزلت في السراة بما يوافق نظرية الصليبي، ثم كتب الدكتور أحمد سعيد قشاش كتاب "أبحاث في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة"، وذهب لنفس المذهب وقدم استشهادات  أخرى من الأسماء، وهنالك من كتب الحجاز أرض التوراة.

ومن الملاحظ على معظم هذه الكتب هو الإمعان في المقارنات اللفظية والتقريب والمقابلة اللغوية، بالإضافة للاستئناس بدلالات غير مباشرة لبعض النقوش (اليمنية فقط) والإشارات التاريخية عند الهمداني وسواه أو الأخذ بفهم محدد غير مباشر لبعض الاحاديث النبوية، ولكن لا يوجد أي إشارة ذات دلالة واضحة المعالم تدل على ذلك كالنقوش أو الوثائق القديمة المعاصرة، كما ان معظم هؤلاء يربطون تواريخ الهجرات إلى الشام وانتقال المفاهيم إلى هنالك إلى مرحلة متأخرة وغالبا تقرن بالأحداث الواردة في المصادر العربية عن التاريخ اليمني.

صدر بعد هذه الكتب كتاب للدكتور  عصام سخيني عام 2018م وهو كتاب "تهافت القصص التوراتي" واستعرض الدراسات التي انتهت إلى التشكيك في حقيقة القصص التوراتي ابتداء من بورفيراس (ت306)، مرورا بابن حزم (ت1064م)، وانتهاء بجوستا أولسترام (ت1992)،  كما استعرض الكتب العربية التي أيدت القصص التوراتي ومن ذلك استحضر كتب أصحاب النظرية العسيرية واليمنية، ووجه نقدا لهذه الكتب، ولكل من أيد القصص التوراتي في العموم، وقد كان مما استشهد به على اخطائها رسائل تل العمارنة التي ذكرت أورشليم في القر ن الرابع عشر قبل الميلاد، ورغم أن رسائل تل العمارنة التي أوردها الدكتور سخيني أوردت ضمن ما واردت الرسائل القادمة من جهات بلاد الشام في نفس المرحلة (ق14ق.م) وهي تشير إلى شكاوى الأهالي من مهاجمة جماعات من الرحل يسمون (العبيرو) للممالك الموجودة هنالك، إلا أنه اعتبر انه قد ثبت أنها لا تعني اليهود العبرانيين بل مجموعة من شذاذ الآفاق من أصول مختلفة، ولكنه لم يستكمل الحديث حول كيف ثبت ذلك.

   إن رسائل تل العمارنة بشرق الدلتا بمصر تبين أن العبرانيين تواجدوا في فلسطين وبلاد الشام (بلاد كنعان) منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد بل وتشير الرسائل الموجهة من الشام ومن جهات فلسطين وسوريا ان قوما اسمهم (العبيرو) قد كانوا يهاجمون الممالك المحيطة في تلك المرحلة ويوافق هذا ما ورد في التوراة حيث جاء ان إبراهيم تنقل وخاض حروبا مع الملوك الموجودين هنالك، كما ذكرت "أورشليم" في هذه الرسائل ست مرات على الأقل، بما يدل على أن أورشليم في فلسطين سابقة لما ذكر فاضل الربيعي الذي ربطهم باليمن وحدد هجرتهم منها إلى الشمال عام 200ق.م، وأشار إلى ان أورشليم هو اسم بناء في اليمن.

بعد ذلك صدر كتاب للدكتور عبدالله بن احمد الفيفي باسم "تاريخ بني إسرائيل وجزيرة العرب" وشن الفيفي هجوما لاذعا على كل من كتب حول هذا الموضوع واستعرض استدلالاتهم في هذا الموضوع وأبرز مدى هشاشتها حسب ما رآه. ثم أشار للدلالات على مصداقية الأخبار التوراتية إلى حد بعيد من خلال استعراض رسائل تل العمارنة التي ذكرناها ومدى مطابقتها للقصص التوراتي، ثم أورد المخطوط البردي الهيروغليفي الذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم  (الهابيروس : العبرانيين) ليسوا بمصريين، كانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. ويقول يبدو أن هذا اللقب يشير إلى العبرانيين الذين جاءت الإشارة إليهم في رسائل الكنعانيين المعثور عليها في (تل العمارنة) وقد وردت الإشارة لهذا التسخير في سفر "الخروج" هكذا: "فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل ..."

كما أورد الباحث ما نقله ويل ديورانت عن (جاستانج)، عضو بعثة (مارستن) التابعة لجامعة ليفربول أنها كشفت في مقابر أريحا الملكية أدلة تثبت أن موسى قد أنقذته من الموت الملكة حتشبسوت عام 1527ق.م، فتربى في بلاطها، ثم فر من مصر حين تولى الملك تحوت موسى الثالث عدو حتشبسوت.

ولم يرد لدى الباحث ما يدل على أكثر من ذلك حول التفاصيل من مصدر المعلومة.

   من خلال ما تقدم نجد أن هنالك من الأدلة مما يوازي مرحلة أحداث التوراة بالضبط في كل من رسائل تل العمارنة التي تثبت وجود أورشليم في بلاد كنعان في القرن 14 ق.م، ووجود العبرو (العبرانيين) في بلاد كنعان (الشام) ونشاطهم القتالي كبدو في نفس المرحلة، وتؤكد ما ورد في التوراة عن أخبار النبي إبراهيم عليه السلام المعاصر لهذه المرحلة.

كما أن المخطوط البردي الهيروغليفي الذي أورده الأستاذ الفيفي والذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم (الهابيروس : العبرانيين) وأنهم ليسوا بمصريين، وكانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. يؤكد ما ورد في التوراة والقرآن حول استعباد المصريين لبني إسرائيل والتي كانت جزء منها قصة موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم.

   ومن خلال ما تقدم فإن قصة وجود اليهود في بلاد كنعان بما يوازي مراحل نزول التوراة حسب زعم اليهود مطابق لما تحمله الوثائق والنصوص المعاصرة لهم ومن ثم فإن الحديث عن نزول التوراة أو ارتباط القصص التوراتي بمنطقة عسير أو اليمن أو السراة أو الجزيرة العربية في العموم لا صحة لها كما يظهر لنا، إلا ان ذلك لا ينفي وجود ثغرة ما تتعلق بتشابه الأسماء والتقاليد إلى درجة كبيرة بين مناطق في عسير ومناطق يهودية ككريات أربع والتي يقابلها قرية الأربوعة   أو قرية الربوعة، وغيرها وهنالك أسماء والفاظ يهودية متكررة كثيرا في منطقة عسير وبلاد السراة عامة بعيدا عن تلك التي أثارت سخرية الاستاذين الفيفي وسخيني، ناهيك عن تلك الذوائب التي كان العسيريون يطلقونها على جانبي اكتافهم على نفس نمط الزنانير اليهودية.

لقد درج العرب منذ بدء التدوين على ترسيخ مفهوم مركزية جنوب الجزيرة العربية في التاريخ العربي، ولعل هذا يعود لأثر سكان الجزيرة العربية في التاريخ العربي منذ فجر الإسلام، ولربما تأثر بعض الدارسين الغربيين بهذا المفهوم المتوارث فخرجت الكثير من النظريات التي لا زالت تحمل في خلفيتها فكرة الهجرة من الجنوب للشمال، وتفترض أن الهجرة لا يكون لها من سبب إلا البحث عن الرزق عندما يضيق في الموقع، بينما الهجرات لها أسباب كثيرة لعل من أهمها الحروب خاصة عندما تكون الامة مهددة من أمم أخرى تفوقها عددا وعدة.

إن التشابه بين اليهود واهل السراة في نمط الأسماء وفي الذوائب الملوية والمنسدلة من جانبي الرأس لا يخص الجانبين فقط فقد كان البابليين مثلا يطيلون شعورهم ويسدلونها على الجانبين ويدهنون أجسامهم بالسمسم على نمط أهل تهامة. والقواسم بين الجانبين في اللغة كثيرة جدا وسبق ان تطرقت لبعضها وهنالك المزيد.

ومن هنا نقول بأن صلة اليهود بالعرب سكان الجزيرة العربية ومنهم أهل السراة هي صلة جوار قديم، وصلة قربى قديمة، عندما كانوا جميعا في بلاد الشام وما بين النهرين قبل هجرة العرب وبعض العبرانيين للجنوب وبقاء بعضهم هنالك.

وللحديث تشعبات كثيرة نكتفي منها بما ذكرنا.



 

الأحد، 9 يناير 2022

القبيلة أم الوطن

 


   في برنامج المديفر كان الضيف د. سعد الصويان يتحدث عن حياته وآرائه حول عدد من القضايا المجتمعية بصفته أستاذا في الأنثروبولوجيا.

   وكان الرجل صريحا جريئا في الطرح حول بعض القضايا ذات الحساسية العالية في المجتمع، ومن ذلك طرحه لفكرة دمج المجتمع من خلال عملية مدروسة تقوم بها الحكومة لفرض التزاوج بين فئات المجتمع مثل الحضر والبدو والصلب و القبيليين والخضيريين والصناع والسنة والشيعة، وكذلك الدمج بين المنتمين للمناطق المختلفة.

وقد ضرب الأستاذ سعد على وتر ذو شجون ، فقد طرقت هذا الباب عبر العديد من المنتديات منذ فترات طويلة، ودخلت جدالا حوله، فقد كان لي وجهة نظر تشكلت خلال تنقلي منذ التسعينات الهجرية ما بين بعض مدن المملكة في الوسط والجنوب ومعاينة التشابه في التمييز الطبقي في الجانبين، والوقوف على هذا التمييز في بعض مدن الشمال أيضاً، فالطبقات نفسها في هذه المناطق وأسبابها هي ذاتها، ولكن المسميات تختلف، وقد لاحظت أنه خلال هذه المرحلة تم ربط التمييز الطبقي بفولتات الكهرباء في هذه المناطق، فأصبح هنالك وحدة مسمى، بحيث تم تمييز الطبقة السائدة باسم (خط 220)، والطبقات الأخرى بمسمى (خط 110)، مما يدل على توافق يتصل بالخلفيات، وبالفعل وجدت أن الأسباب نفسها في كل الجهات، والحق عندما كتبت وجادلت حول ذلك أنني لم أكن بشجاعة الدكتور، فقد كنت اكتب بمعرف مستعار، لذا لم تكن الشتائم والاتهامات مباشرة.

   ومهما اختلفنا مع الصويان في بعض ما طرحه خلال كامل اللقاء أو أيدناه فيجب أن نحيي صراحة وجرأة الدكتور سعد فالمثقف الحقيقي هو ذلك الذي يكتب غير معني باتجاه التيار، فهو يبحث عن الجرح ليصف له العلاج، ولا يبحث عن موقع الطبطبة من الكتف، فلا يمكننا اعتبار كاتب يمعن في المصطلحات، والاستعراض الأكاديمي، ويحرص على مداراة الرأي العام مفكراً.

   وقد لاقى هذا الطرح فيما يخص الجزئية التي اوردناها ردة فعل عنيفة، واتهمه الكثير بمحاولة ضرب بنية المجتمع، واتجه البعض لربط حديث الصويان بمحاولة الوصول إلى الانسلاخ من الأسرة باعتبار الأسرة اللبنة المكونة للقبيلة، ونزل هاشتاق غاضب باسم #القبيلة_خط_أحمر، ومن العجيب استشهاد البعض بالحديث والسنة لدحض مطالب الصويان.

والحق أن ما قاله الصويان مما أوردنا وان كان هنالك من رأَى فيه حدة لفظية إلا أن فيه حقيقة لا بد أن نتقبلها، خاصةً عندما وصف هذه الحواجز المفتعلة بالوهم.

   جبل الإنسان على الميل لمركزة الذات وتطريف الآخرين، لذا تجد هنالك حرص من الكثير على زيادة حدية الجدار الفاصل بينهم وبين الآخر عندما يجدون أن هذا الفاصل يجعلهم في مركز أفضل من البقية، بل ربما وجدت من يحاول أن يضيق أو يوسع المساحة داخل هذا الفاصل لتقف عند حدوده هو، ولكن معالجة الأمور الوطنية والتي تمسنا عامة تلزمنا بالخروج من هذه الدائرة والنظر من فضاء آخر، فمن لا ينظر إلى الأمور إلا من خلال ذاته وموقعه من القضية لا يرى إلا جانبا واحدا، وبالتالي فإن نظرته ستكون متحيزة، وستقصيه عن الوقوف على حقيقة الأمر، والأبعاد والمآلات.

   لا شك أن هنالك شعور بالنقمة لدى ذلك الجزء الذي يمثل نسبة لا يستهان بها من المجتمع عندما يرى أن مجتمعه ينبذه، بينما هو لا يقل عن الآخرين بشيء، فتخيل أنك ذلك الدكتور أو المهندس أو الفنان التشكيلي أو الكاتب أو رجل العلم الشرعي أو غيره والذي ينتمي إلى أسرة ميسورة متنفذة، ثم لا يستطيع ان يتزوج ابنة جاره التي يرغب الزواج منها، لأن مجتمعه صنفه في طبقة اجتماعية أقل، أو لأنه لا يحمل انتماءً متوارث لقبيلة معينة، أو لكونه ينتمي لقبيلة منبوذة، هل ستحمل نقمة على المجتمع أم لا، لا شك أنك ستحمل بصورة أو أخرى (أنا لا أقول نقمة على الوطن)، ولا شك أن هذه النقمة تخلخل المجتمع ومن ثم الوطن وتضعفه، فليس هنالك أسوأ من أن تجد أنك مصنف بالولادة في موقع أقل من الآخرين في وطنك، وأنه لا أمل لك في الخروج من هذا التصنيف، ثم لا تجد أنهم يفضلونك بشيء، فأنت مثلهم في الانسانية والقدرة والهيئة، بينما ترى أنك لست مصنفاً كذلك في كافة المجتمعات الأخرى خارج وطنك، بل إنها لا تحمل هذا النمط من التصنيفات.

   فإذا أردنا ان ننشئ مجتمعا مترابطا ذو شعور قومي موحد لوطنه، يقف خلف قيادته كالبنيان المرصوص للحفاظ على كل ذرة من تراب الوطن، ويحرص على العمل الدؤوب من أجل رفعته، فعلينا ان نوجه كل ثقلنا لضرب حدِّية الحدود الفاصلة فيما بين المجتمع، وفضح هلاميتها، سواء تلك الحدود الجغرافية أو العرقية أو الطبقية أو القبائلية، فهذه الحدود قد نمت وازدادت حدة في أعماقنا حتى أصبحت تمثل حاجزا بين أجزاء المجتمع الواحد، بينما هي ليست أكثر من حدود وهمية بالفعل كما سيأتي معنا.

فعلى المستوى المناطقي "الجغرافي": فإن الجزيرة العربية تكاد تكون وحدة واحدة ارتبط استقرارها ببعضها البعض، فعندما ندرس تقاسيم الجزيرة العربية سواء التقسيمات القديمة التي وضعها الكلاسيكيون أو تقسيم الجغرافيين العرب فإننا نجدها مسميات جغرافية لا أكثر، تعريفاتها مختلفة بين مرحلة وأخرى وبين مصدر وآخر، وليس هنالك حدود واضحة المعالم بينها، كما أنه لم يرتبط الاختلاف في الأسماء التي نعطيها اعتبارا في الوقت الحالي بمفاهيم الهوية القومية، فمناطق الجزيرة التي انضوت في هذا الوطن لم تمثل أيها تاريخيا عصبية قومية بذاتها، إذ لم تتجاوز هذه الأسماء مفهوم الجغرافيا المرتبطة بالتضاريس، كما أن تعريف هذه المناطق وحدودها اختلف بين مرحلة وأخرى، بينما كان السكان متنوعين عرقيا في كل من هذه المناطق على حدة، وكان الترحال والانتجاع بين هذه المناطق قائم عبر التاريخ، فسكان كل منطقة كان لهم أو لأبناء عمومتهم الأقربون حضور في المساحات الأخرى من الجزيرة العربية ، ورغم حتمية وجود الخصوصية المرتبطة بالجغرافيا، إلا أنها  خصوصية نسبية تتدرج حسب المسافة والمرحلة، فلم يكن هنالك فروقات عرقية مرتبطة بالتقسيم الجغرافي الأساسي بين مناطق الجزيرة العربية ـ وهو ما صادقت عليه نتائج الدي ان أي في العصر الحديث ـ لذا كانت مناطق هذه الجزيرة مترابطة التاريخ والأحداث منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، بدءاً من تقاطر وفود القبائل العربية من كل أنحاء الجزيرة العربية للدخول في الاسلام خلال ثلاثة أعوام (ما بين العام التاسع والحادي عشر للهجرة)، ثم ارتداد كل القبائل في كافة أنحاء الجزيرة العربية بعد موت النبي، ثم عودتها بعد حروب  الردة، ثم انطلاقها من موقع آخر حروب الردة لفتح الأمصار خارج الجزيرة العربية.

   وقد ظلت هذه الجزيرة تعيش حالة سياسية واجتماعية متشابهة ومتصلة ببعضها من خلال تنقل القبائل المتواصل بين مناطقها، والتي ظلت همزة وصل بين أجزائها عبر التاريخ، وفيما قبل الدولة السعودية الأولى لم يكن مفهوم الهوية الوطنية يتجاوز حدود القبيلة الأدنى أو البلدة، وربما امتد ليحتوي عدد من القرى أو البلدات المتجاورة التي يجمعها التجاور ووحدة المسمى،  ومن ثم فعندما قامت الدولة السعودية الأولى في وسط الجزيرة العربية، كأول كيان سياسي مستقل قام منذ ذلك التاريخ، فقد انضوت كامل الجزيرة العربية في هذا الكيان، وأصبحت جميعها منتمية لهذا الكيان خلال فترة قصيرة، ولم يفرق هذه الدولة إلى كيانات (سناجق) إلا ثقل الدولة العثمانية، والتي كانت تمثل الدولة العظمى في حينه، فحرصت بعد اسقاط الدرعية على التفتيت ثم منع عودة الوحدة السعودية لكامل أجزاء الوطن مرة أخرى،  وبالتالي فعندما ثار الإمام تركي بن عبدالله فقد استعاد نجد المحددة بإطار الدولة العثمانية فقط، واقام الدولة السعودية الثانية ولكن في حدود الإطار المحلي، فلم يمد نفوذه على كامل مناطق الدولة السعودية الأولى، رغم أن العسيريين مثلاً والذين ثاروا وامتدوا في حدود الإطار والمسمى العثماني أيضاً، كانوا يرسلون الهدايا والرسائل إلى أئمة الدولة السعودية عرفانا بالولاء، ولكن ما أن فقدت الدولة العثمانية قوتها بعد الحرب العالمية الأولى حتى عادت الجزيرة العربية للتوحد بمعظم مساحتها تحت الكيان السعودي مرة أخرى على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وهو ما يدل على الترابط القوي بين أجزاء الجزيرة العربية التي انتظمت فورا تحت هذه الدولة.

   أما من حيث الطبقات الاجتماعية: فإن هذه الفروقات التي وضعناها بيننا البين جاءت في معظمها من خلال التصنيف المهني، بحيث أن كل من يعمل في غير المهن الأساسية القديمة وهي الرعي والزراعة ـ وبدرجة أقل التجارة ـ صُنِّفَ من فئة أقل، أو لعل جزء منها جاء من خلال الحروب، كناتج لتلك المعارك التي كانت تقوم بين القبائل العربية والتي تؤدي لسقوط العديد من الأسرى من الأطفال من أبناء القبائل العربية، والذين يفقدون قيمتهم القبلية السابقة ومن ثم صلتهم بها، أو من خلال اللجوء القسري  جراء العداوات والأحداث كالقتل وخلافه إلى المناطق الأخرى، مما يفقد الشخص صلته بقومه الذين يعرفون قدره، فيضطر للتداخل مع طبقات محسوبة أقل بدافع الارتزاق أو التزاوج فيحسب منها، وهكذا، ونسبة قليلة جدا لأسباب أخرى.

  والإشكال الأكبر في نظام الطبُّقية الاجتماعية في الجزيرة العربية وخاصة في بلادنا أنها أزلية، لا ينقضها تغير المهنة ولا تغير الوضع الاقتصادي، ولا تقادم وتتابع الأجيال، كما أن هذا النظام لم يقم بشكل تام على الاعتبارات العرقية، بينما نجد أن التمايز الاجتماعي في باقي المجتمعات العربية (وغير العربية) لا يحمل هذا الفاصل الحدي ولا صفة الأزلية، فالوضع المالي يكاد يكون المؤثر الأبرز في هذا الخصوص، لذا فقد ينتقل شخص من طبقة اجتماعية إلى أخرى، عندما يتمكن من العمل وتغيير وضعه، كما أن الأمر لا يتعلق بالزواج.

 فلا أمرً من أن تجد أنك منبوذ بشكل أزلي، لأن جدك الذي لا تعرفه ولا تعرف في أي عصر عاش قد عمل في مهنة شريفة راقية ليكسب عيشه، ولكن المجتمع لا يحبذها فنبذه، لذا فأنت وأبناءه وأقاربك ستظلون منبوذين مدى الدهر، بينما لا تجد فارقا بينك وبين من ينبذونك لا خَلْقيا ولا خُلُقيا.

   يصر البعض على أن التفريق بين الناس على أساس طبقي له أساس شرعي،  وهذا غير صحيح، فقد زوج النبي مولاه زيد بن ثابت ابنة عمته ثم تزوجها بعده، ويحتج البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، ويحاولون اسقاط مقاصد هذا الحديث على مفاهيم الطبقات الاجتماعية الحالية، وهذا ينافي العقل والحقيقة، فالمقصود بهذا الحديث العظيم المعنى ـ سواء صح أو لم يصح ـ هو اختيار الصفات التي تريدها في أبنائك عند اختيار زوجتك، فإذا أردت مثلاً أبناء طوال القامة أو قصاراً، أو أذكياء أو ذوي بشرة سمراء أو بيضاء، أو غير ذلك من الصفات، فابحث عن هذه الصفات فيمن تتزوج منهم، وقوله العرق دساس يتماشى مع ما وصل اليه العلم الحديث في اكتشاف الـ"دي ان أي"، فالعرق يدس الصفات الموجودة في زوجتك وأسرتها وأسلافهم في الجينات فتخرج في أبنائك، ولا علاقة لذلك بالمهنة، ولا بالطبقة الاجتماعية.

   ومن المفارقات الطريفة أننا أصبحنا نبحث عن صفات طبقات المهنيين والحرفيين (الصناع) في أبنائنا، لنراهم مهندسين وفنيين حاذقين في مهنهم وأعمالهم، وليحصلوا على وظائف في وقت أسرع، فالمعاهد والكليات التقنية وكليات الهندسة تكتظ بأبناء القبائل والقبيليين، بينما ننتقص أولئك الذين امتهن آباؤهم وأجدادهم نفس المهن. 

   وقد شاء الله أن يكشف عوراتنا بشكل جلي، ويرينا كم نحن نرتكب من الأخطاء عندما نصر على أن نشابه من سبقونا، ونستمد نفس قيمهم الموروثة، دون محاولة معرفة مدى ملائمة هذا الموروث لعصرنا وحياتنا، وحساب المكاسب والخسائر، ومدى تواؤمه مع الشريعة الإسلامية.

   لقد كان هنالك اعتقاد لدى المتمسكين بالفروقات الطبقية يقول بصلتها بالفروقات العرقية، فتحال حتى أخطاء الأشخاص في بعض الحالات إلى فئتهم الطبقية، مما يعني انتماء الطبقات الأقل اعتبارا في المجتمع لأعراق وضيعة.

   ولكن بعد ظهور نتائج اختبارات الدي ان أي فقد ثبت خطأ هذه الفكرة وهشاشة المفاهيم التي بنيت عليها هذه الطبقية، فلم ترتبط الطبقات الاجتماعية بالسلالات، ولم يثبت وجود طبقيَّة جينية، إذ ظهرت الفروقات العرقية داخل كل طبقة من الطبقات، بينما لم يتضح وجود تمايز جيني بين الطبقات بعضها البعض.

   فمثلا توزعت نتائج القبائل والأسر القبيلية (الرعاة والمزارعين) على التحورات الأساسية كل من J1  و E و J2 و T و R بنسب مختلفة، ولكن ظهر أن J1 هو الأكثر حضورا، ويليه البقية بنسب متقاربة، حسب ما اعلن منها.

وعلى الجانب الآخر توزعت نتائج الفئات الأخرى، كالصناع ومن في طبقتهم بنفس النسب تقريباً، حسب ما اعلن منها، والطريف أن كل تحور في طبقة القبيليين ظهر لهم من الفئة المصنفة كغير قبليين أبناء عمومة حقيقيين ـ وليسوا افتراضيين ـ ، فهم أقرب لهم من الكثير ممن يشاركونهم النظرة الدونية لأبناء عمومتهم، وهو ما يدل على أن هذه الفئات التي صنفت في طبقة معينة هي من نفس الطينة والجينات التي هم منها، وأن الامر لم يتجاوز ظروف الهجرة واللجوء، أو الوقوع في الأَسر، أو امتهان أجدادهم مهن جديدة أكثر حرفية وتطورا، كالحياكة والنجارة والحدادة والصياغة والوراقة مما لا يستطيع اتقانها إلا قلة من الناس، وهو ما جعلهم أقلية تمكن الأكثرية من نبذهم وتصنيفهم بطريقة مجحفة.

   وما قلناه عن الطبقات الاجتماعية المصنفة كطبقات أقل ينطبق أيضاً على القبائل المنبوذة ممن تواطأت بقية القبائل على نبذهم، وعدم التزاوج معهم، فقد خرجت نتائج هذه القبائل، وكانوا بنفس الدرجة من التنوع السلالي التي وجدناها عند القبائل الأخرى المعتبرة.

 ومن ثم يجب أن نعي أن الإصرار على نبذ هذه الطبقات والقبائل هو نبذ لذواتنا.

فإذا كان من يحملون جيناتنا ونفس سلالاتنا عرقا أدنى، فماذا نكون نحن.

إن محاولة احداث الاختراق الفردي لهذه الحواجز غير مجدية، ولكن يمكن احداث الاختراق من خلال عملية مدروسة ومنظمة تبدأ من الأعلى، حتى يمكن تكوين الأنموذج الذي يحتذى، ويبدأ من ثم كسر الحاجز المعنوي، أي أنه يجب أن يكون عملاً مدعوما من الحكومة كما رأى الصويان،  ولعلنا بذلك نكفر عن ذنب الأجداد. 

والله من وراء القصد