الأحد، 9 يناير 2022

القبيلة أم الوطن

 


   في برنامج المديفر كان الضيف د. سعد الصويان يتحدث عن حياته وآرائه حول عدد من القضايا المجتمعية بصفته أستاذا في الأنثروبولوجيا.

   وكان الرجل صريحا جريئا في الطرح حول بعض القضايا ذات الحساسية العالية في المجتمع، ومن ذلك طرحه لفكرة دمج المجتمع من خلال عملية مدروسة تقوم بها الحكومة لفرض التزاوج بين فئات المجتمع مثل الحضر والبدو والصلب و القبيليين والخضيريين والصناع والسنة والشيعة، وكذلك الدمج بين المنتمين للمناطق المختلفة.

وقد ضرب الأستاذ سعد على وتر ذو شجون ، فقد طرقت هذا الباب عبر العديد من المنتديات منذ فترات طويلة، ودخلت جدالا حوله، فقد كان لي وجهة نظر تشكلت خلال تنقلي منذ التسعينات الهجرية ما بين بعض مدن المملكة في الوسط والجنوب ومعاينة التشابه في التمييز الطبقي في الجانبين، والوقوف على هذا التمييز في بعض مدن الشمال أيضاً، فالطبقات نفسها في هذه المناطق وأسبابها هي ذاتها، ولكن المسميات تختلف، وقد لاحظت أنه خلال هذه المرحلة تم ربط التمييز الطبقي بفولتات الكهرباء في هذه المناطق، فأصبح هنالك وحدة مسمى، بحيث تم تمييز الطبقة السائدة باسم (خط 220)، والطبقات الأخرى بمسمى (خط 110)، مما يدل على توافق يتصل بالخلفيات، وبالفعل وجدت أن الأسباب نفسها في كل الجهات، والحق عندما كتبت وجادلت حول ذلك أنني لم أكن بشجاعة الدكتور، فقد كنت اكتب بمعرف مستعار، لذا لم تكن الشتائم والاتهامات مباشرة.

   ومهما اختلفنا مع الصويان في بعض ما طرحه خلال كامل اللقاء أو أيدناه فيجب أن نحيي صراحة وجرأة الدكتور سعد فالمثقف الحقيقي هو ذلك الذي يكتب غير معني باتجاه التيار، فهو يبحث عن الجرح ليصف له العلاج، ولا يبحث عن موقع الطبطبة من الكتف، فلا يمكننا اعتبار كاتب يمعن في المصطلحات، والاستعراض الأكاديمي، ويحرص على مداراة الرأي العام مفكراً.

   وقد لاقى هذا الطرح فيما يخص الجزئية التي اوردناها ردة فعل عنيفة، واتهمه الكثير بمحاولة ضرب بنية المجتمع، واتجه البعض لربط حديث الصويان بمحاولة الوصول إلى الانسلاخ من الأسرة باعتبار الأسرة اللبنة المكونة للقبيلة، ونزل هاشتاق غاضب باسم #القبيلة_خط_أحمر، ومن العجيب استشهاد البعض بالحديث والسنة لدحض مطالب الصويان.

والحق أن ما قاله الصويان مما أوردنا وان كان هنالك من رأَى فيه حدة لفظية إلا أن فيه حقيقة لا بد أن نتقبلها، خاصةً عندما وصف هذه الحواجز المفتعلة بالوهم.

   جبل الإنسان على الميل لمركزة الذات وتطريف الآخرين، لذا تجد هنالك حرص من الكثير على زيادة حدية الجدار الفاصل بينهم وبين الآخر عندما يجدون أن هذا الفاصل يجعلهم في مركز أفضل من البقية، بل ربما وجدت من يحاول أن يضيق أو يوسع المساحة داخل هذا الفاصل لتقف عند حدوده هو، ولكن معالجة الأمور الوطنية والتي تمسنا عامة تلزمنا بالخروج من هذه الدائرة والنظر من فضاء آخر، فمن لا ينظر إلى الأمور إلا من خلال ذاته وموقعه من القضية لا يرى إلا جانبا واحدا، وبالتالي فإن نظرته ستكون متحيزة، وستقصيه عن الوقوف على حقيقة الأمر، والأبعاد والمآلات.

   لا شك أن هنالك شعور بالنقمة لدى ذلك الجزء الذي يمثل نسبة لا يستهان بها من المجتمع عندما يرى أن مجتمعه ينبذه، بينما هو لا يقل عن الآخرين بشيء، فتخيل أنك ذلك الدكتور أو المهندس أو الفنان التشكيلي أو الكاتب أو رجل العلم الشرعي أو غيره والذي ينتمي إلى أسرة ميسورة متنفذة، ثم لا يستطيع ان يتزوج ابنة جاره التي يرغب الزواج منها، لأن مجتمعه صنفه في طبقة اجتماعية أقل، أو لأنه لا يحمل انتماءً متوارث لقبيلة معينة، أو لكونه ينتمي لقبيلة منبوذة، هل ستحمل نقمة على المجتمع أم لا، لا شك أنك ستحمل بصورة أو أخرى (أنا لا أقول نقمة على الوطن)، ولا شك أن هذه النقمة تخلخل المجتمع ومن ثم الوطن وتضعفه، فليس هنالك أسوأ من أن تجد أنك مصنف بالولادة في موقع أقل من الآخرين في وطنك، وأنه لا أمل لك في الخروج من هذا التصنيف، ثم لا تجد أنهم يفضلونك بشيء، فأنت مثلهم في الانسانية والقدرة والهيئة، بينما ترى أنك لست مصنفاً كذلك في كافة المجتمعات الأخرى خارج وطنك، بل إنها لا تحمل هذا النمط من التصنيفات.

   فإذا أردنا ان ننشئ مجتمعا مترابطا ذو شعور قومي موحد لوطنه، يقف خلف قيادته كالبنيان المرصوص للحفاظ على كل ذرة من تراب الوطن، ويحرص على العمل الدؤوب من أجل رفعته، فعلينا ان نوجه كل ثقلنا لضرب حدِّية الحدود الفاصلة فيما بين المجتمع، وفضح هلاميتها، سواء تلك الحدود الجغرافية أو العرقية أو الطبقية أو القبائلية، فهذه الحدود قد نمت وازدادت حدة في أعماقنا حتى أصبحت تمثل حاجزا بين أجزاء المجتمع الواحد، بينما هي ليست أكثر من حدود وهمية بالفعل كما سيأتي معنا.

فعلى المستوى المناطقي "الجغرافي": فإن الجزيرة العربية تكاد تكون وحدة واحدة ارتبط استقرارها ببعضها البعض، فعندما ندرس تقاسيم الجزيرة العربية سواء التقسيمات القديمة التي وضعها الكلاسيكيون أو تقسيم الجغرافيين العرب فإننا نجدها مسميات جغرافية لا أكثر، تعريفاتها مختلفة بين مرحلة وأخرى وبين مصدر وآخر، وليس هنالك حدود واضحة المعالم بينها، كما أنه لم يرتبط الاختلاف في الأسماء التي نعطيها اعتبارا في الوقت الحالي بمفاهيم الهوية القومية، فمناطق الجزيرة التي انضوت في هذا الوطن لم تمثل أيها تاريخيا عصبية قومية بذاتها، إذ لم تتجاوز هذه الأسماء مفهوم الجغرافيا المرتبطة بالتضاريس، كما أن تعريف هذه المناطق وحدودها اختلف بين مرحلة وأخرى، بينما كان السكان متنوعين عرقيا في كل من هذه المناطق على حدة، وكان الترحال والانتجاع بين هذه المناطق قائم عبر التاريخ، فسكان كل منطقة كان لهم أو لأبناء عمومتهم الأقربون حضور في المساحات الأخرى من الجزيرة العربية ، ورغم حتمية وجود الخصوصية المرتبطة بالجغرافيا، إلا أنها  خصوصية نسبية تتدرج حسب المسافة والمرحلة، فلم يكن هنالك فروقات عرقية مرتبطة بالتقسيم الجغرافي الأساسي بين مناطق الجزيرة العربية ـ وهو ما صادقت عليه نتائج الدي ان أي في العصر الحديث ـ لذا كانت مناطق هذه الجزيرة مترابطة التاريخ والأحداث منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، بدءاً من تقاطر وفود القبائل العربية من كل أنحاء الجزيرة العربية للدخول في الاسلام خلال ثلاثة أعوام (ما بين العام التاسع والحادي عشر للهجرة)، ثم ارتداد كل القبائل في كافة أنحاء الجزيرة العربية بعد موت النبي، ثم عودتها بعد حروب  الردة، ثم انطلاقها من موقع آخر حروب الردة لفتح الأمصار خارج الجزيرة العربية.

   وقد ظلت هذه الجزيرة تعيش حالة سياسية واجتماعية متشابهة ومتصلة ببعضها من خلال تنقل القبائل المتواصل بين مناطقها، والتي ظلت همزة وصل بين أجزائها عبر التاريخ، وفيما قبل الدولة السعودية الأولى لم يكن مفهوم الهوية الوطنية يتجاوز حدود القبيلة الأدنى أو البلدة، وربما امتد ليحتوي عدد من القرى أو البلدات المتجاورة التي يجمعها التجاور ووحدة المسمى،  ومن ثم فعندما قامت الدولة السعودية الأولى في وسط الجزيرة العربية، كأول كيان سياسي مستقل قام منذ ذلك التاريخ، فقد انضوت كامل الجزيرة العربية في هذا الكيان، وأصبحت جميعها منتمية لهذا الكيان خلال فترة قصيرة، ولم يفرق هذه الدولة إلى كيانات (سناجق) إلا ثقل الدولة العثمانية، والتي كانت تمثل الدولة العظمى في حينه، فحرصت بعد اسقاط الدرعية على التفتيت ثم منع عودة الوحدة السعودية لكامل أجزاء الوطن مرة أخرى،  وبالتالي فعندما ثار الإمام تركي بن عبدالله فقد استعاد نجد المحددة بإطار الدولة العثمانية فقط، واقام الدولة السعودية الثانية ولكن في حدود الإطار المحلي، فلم يمد نفوذه على كامل مناطق الدولة السعودية الأولى، رغم أن العسيريين مثلاً والذين ثاروا وامتدوا في حدود الإطار والمسمى العثماني أيضاً، كانوا يرسلون الهدايا والرسائل إلى أئمة الدولة السعودية عرفانا بالولاء، ولكن ما أن فقدت الدولة العثمانية قوتها بعد الحرب العالمية الأولى حتى عادت الجزيرة العربية للتوحد بمعظم مساحتها تحت الكيان السعودي مرة أخرى على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وهو ما يدل على الترابط القوي بين أجزاء الجزيرة العربية التي انتظمت فورا تحت هذه الدولة.

   أما من حيث الطبقات الاجتماعية: فإن هذه الفروقات التي وضعناها بيننا البين جاءت في معظمها من خلال التصنيف المهني، بحيث أن كل من يعمل في غير المهن الأساسية القديمة وهي الرعي والزراعة ـ وبدرجة أقل التجارة ـ صُنِّفَ من فئة أقل، أو لعل جزء منها جاء من خلال الحروب، كناتج لتلك المعارك التي كانت تقوم بين القبائل العربية والتي تؤدي لسقوط العديد من الأسرى من الأطفال من أبناء القبائل العربية، والذين يفقدون قيمتهم القبلية السابقة ومن ثم صلتهم بها، أو من خلال اللجوء القسري  جراء العداوات والأحداث كالقتل وخلافه إلى المناطق الأخرى، مما يفقد الشخص صلته بقومه الذين يعرفون قدره، فيضطر للتداخل مع طبقات محسوبة أقل بدافع الارتزاق أو التزاوج فيحسب منها، وهكذا، ونسبة قليلة جدا لأسباب أخرى.

  والإشكال الأكبر في نظام الطبُّقية الاجتماعية في الجزيرة العربية وخاصة في بلادنا أنها أزلية، لا ينقضها تغير المهنة ولا تغير الوضع الاقتصادي، ولا تقادم وتتابع الأجيال، كما أن هذا النظام لم يقم بشكل تام على الاعتبارات العرقية، بينما نجد أن التمايز الاجتماعي في باقي المجتمعات العربية (وغير العربية) لا يحمل هذا الفاصل الحدي ولا صفة الأزلية، فالوضع المالي يكاد يكون المؤثر الأبرز في هذا الخصوص، لذا فقد ينتقل شخص من طبقة اجتماعية إلى أخرى، عندما يتمكن من العمل وتغيير وضعه، كما أن الأمر لا يتعلق بالزواج.

 فلا أمرً من أن تجد أنك منبوذ بشكل أزلي، لأن جدك الذي لا تعرفه ولا تعرف في أي عصر عاش قد عمل في مهنة شريفة راقية ليكسب عيشه، ولكن المجتمع لا يحبذها فنبذه، لذا فأنت وأبناءه وأقاربك ستظلون منبوذين مدى الدهر، بينما لا تجد فارقا بينك وبين من ينبذونك لا خَلْقيا ولا خُلُقيا.

   يصر البعض على أن التفريق بين الناس على أساس طبقي له أساس شرعي،  وهذا غير صحيح، فقد زوج النبي مولاه زيد بن ثابت ابنة عمته ثم تزوجها بعده، ويحتج البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، ويحاولون اسقاط مقاصد هذا الحديث على مفاهيم الطبقات الاجتماعية الحالية، وهذا ينافي العقل والحقيقة، فالمقصود بهذا الحديث العظيم المعنى ـ سواء صح أو لم يصح ـ هو اختيار الصفات التي تريدها في أبنائك عند اختيار زوجتك، فإذا أردت مثلاً أبناء طوال القامة أو قصاراً، أو أذكياء أو ذوي بشرة سمراء أو بيضاء، أو غير ذلك من الصفات، فابحث عن هذه الصفات فيمن تتزوج منهم، وقوله العرق دساس يتماشى مع ما وصل اليه العلم الحديث في اكتشاف الـ"دي ان أي"، فالعرق يدس الصفات الموجودة في زوجتك وأسرتها وأسلافهم في الجينات فتخرج في أبنائك، ولا علاقة لذلك بالمهنة، ولا بالطبقة الاجتماعية.

   ومن المفارقات الطريفة أننا أصبحنا نبحث عن صفات طبقات المهنيين والحرفيين (الصناع) في أبنائنا، لنراهم مهندسين وفنيين حاذقين في مهنهم وأعمالهم، وليحصلوا على وظائف في وقت أسرع، فالمعاهد والكليات التقنية وكليات الهندسة تكتظ بأبناء القبائل والقبيليين، بينما ننتقص أولئك الذين امتهن آباؤهم وأجدادهم نفس المهن. 

   وقد شاء الله أن يكشف عوراتنا بشكل جلي، ويرينا كم نحن نرتكب من الأخطاء عندما نصر على أن نشابه من سبقونا، ونستمد نفس قيمهم الموروثة، دون محاولة معرفة مدى ملائمة هذا الموروث لعصرنا وحياتنا، وحساب المكاسب والخسائر، ومدى تواؤمه مع الشريعة الإسلامية.

   لقد كان هنالك اعتقاد لدى المتمسكين بالفروقات الطبقية يقول بصلتها بالفروقات العرقية، فتحال حتى أخطاء الأشخاص في بعض الحالات إلى فئتهم الطبقية، مما يعني انتماء الطبقات الأقل اعتبارا في المجتمع لأعراق وضيعة.

   ولكن بعد ظهور نتائج اختبارات الدي ان أي فقد ثبت خطأ هذه الفكرة وهشاشة المفاهيم التي بنيت عليها هذه الطبقية، فلم ترتبط الطبقات الاجتماعية بالسلالات، ولم يثبت وجود طبقيَّة جينية، إذ ظهرت الفروقات العرقية داخل كل طبقة من الطبقات، بينما لم يتضح وجود تمايز جيني بين الطبقات بعضها البعض.

   فمثلا توزعت نتائج القبائل والأسر القبيلية (الرعاة والمزارعين) على التحورات الأساسية كل من J1  و E و J2 و T و R بنسب مختلفة، ولكن ظهر أن J1 هو الأكثر حضورا، ويليه البقية بنسب متقاربة، حسب ما اعلن منها.

وعلى الجانب الآخر توزعت نتائج الفئات الأخرى، كالصناع ومن في طبقتهم بنفس النسب تقريباً، حسب ما اعلن منها، والطريف أن كل تحور في طبقة القبيليين ظهر لهم من الفئة المصنفة كغير قبليين أبناء عمومة حقيقيين ـ وليسوا افتراضيين ـ ، فهم أقرب لهم من الكثير ممن يشاركونهم النظرة الدونية لأبناء عمومتهم، وهو ما يدل على أن هذه الفئات التي صنفت في طبقة معينة هي من نفس الطينة والجينات التي هم منها، وأن الامر لم يتجاوز ظروف الهجرة واللجوء، أو الوقوع في الأَسر، أو امتهان أجدادهم مهن جديدة أكثر حرفية وتطورا، كالحياكة والنجارة والحدادة والصياغة والوراقة مما لا يستطيع اتقانها إلا قلة من الناس، وهو ما جعلهم أقلية تمكن الأكثرية من نبذهم وتصنيفهم بطريقة مجحفة.

   وما قلناه عن الطبقات الاجتماعية المصنفة كطبقات أقل ينطبق أيضاً على القبائل المنبوذة ممن تواطأت بقية القبائل على نبذهم، وعدم التزاوج معهم، فقد خرجت نتائج هذه القبائل، وكانوا بنفس الدرجة من التنوع السلالي التي وجدناها عند القبائل الأخرى المعتبرة.

 ومن ثم يجب أن نعي أن الإصرار على نبذ هذه الطبقات والقبائل هو نبذ لذواتنا.

فإذا كان من يحملون جيناتنا ونفس سلالاتنا عرقا أدنى، فماذا نكون نحن.

إن محاولة احداث الاختراق الفردي لهذه الحواجز غير مجدية، ولكن يمكن احداث الاختراق من خلال عملية مدروسة ومنظمة تبدأ من الأعلى، حتى يمكن تكوين الأنموذج الذي يحتذى، ويبدأ من ثم كسر الحاجز المعنوي، أي أنه يجب أن يكون عملاً مدعوما من الحكومة كما رأى الصويان،  ولعلنا بذلك نكفر عن ذنب الأجداد. 

والله من وراء القصد



 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق