الجمعة، 12 ديسمبر 2014

عسير والتاريخ وانحراف المسار - خطورة الحالة القبلية وخطورة التدخل غير الحيادي في نظامها


تمثل القبيلة النمط البدائي لوحدات تكوين المجاميع البشرية في صورتها الأولية، وهي حسب التعريف الأنثروبيولوجي، فرع من العرق المنتمي إلى أحد الأجناس البشرية، وهذا التعريف لا يعدو أن يكون تعريفاً افتراضياً يعتمد النسق القديم للمفهوم كأساس لا زال مهيمناً على الحالة، إلا أنه ولأسباب كثيرة قد لا يمكن أن ننزله على إطلاقه على الحالة القبلية في عصرنا الحالي وخاصة في الجزيرة العربية حيث تكاد القبيلة في الكثير من الحالات أن تكون تكتلاً اجتماعياً موروثاً فرضه الواقع الأمني والاجتماعي والاقتصادي كما سيأتي معنا.    
   وعندما ندقق في الحالة القبلية الموجودة حالياً في مجتمعنا، فإننا نجد أن القبيلة نمط اجتماعي لا زال يفرض مثله وأعرافه (غير المعيشية) على بيئة مرفهة تعيش حياة المدينة، وهي حالة خاصة نشأت عن الثروة النفطية التي أفرزت قفزات اقتصادية وتقنية دون أن يتدرج المجتمع في المراحل المفترضة ليصل ذاتياً إلى هذه النتيجة، ومثل هذه الحالة من النظام الاجتماعي الخاص تحتاج لدراسة جادة ومتعمقة تبرز بوضوح سلبيات هذا الوضع الخاص، وكيفية التعامل معه للوصول إلى نقل المجتمع إلى ما يوازي دوره الحضاري المطلوب في العصر الحديث، فالثروة النفطية زائلة يوماً ما، وليس ذلك اليوم ببعيد جداً، فهل المجتمع مهيأ لتلافي انتكاسة حقيقية في بنائه الذي أصبح متشابكاً، في الوقت  الذي سيكون حينها مضطراً للاعتماد على الذات لمواكبة سير الحضارة.
   فالنظام القبلي ورغم أنه قام بدور اجتماعي تكافلي وأمني ونفسي مهم عبر مراحل تاريخه، إلا أن هنالك الكثير من الإشكالات في استمرار سيطرة هذا النمط على المجتمع في العصر الحديث بل وعودته إلى الساحة بقوة.
   ومفهوم النظام القبلي كنسق اجتماعي لا يعني فقط مفهوم النزعة القبائلية (كما وصمها البعض)، فلا أجد جدوى من طرح أفكار لترشيد حدة القبائلية كمفهوم يشير إلى المنافسة، فالقبائلية لا تمثل سوى الصورة الظاهرة إعلامياً في وقتنا الحالي، وإن ظهرت بلباس المرحلة ونعومتها، فإن ذلك راجع لاختلاف طابع الحياة ذاتها وليس إلى تغير أساسي في المفاهيم، فالقبائلية هي القيمة الأقدر على تغيير وسائلها تاريخياً، فالمنافسة القبلية في الجزيرة العربية ذات طابع متقلب مكتسب من بيئتها الفقيرة التي تفرض قوانين الضرورة غالباً كحالة اعتيادية تنساق خلفها بقية القوانين والأعراف فأورثت إنسانها بيئة تنافسية ذات صبغة إقصائية اتسمت بها صراعاته وأدبياته، فبين المنافسة ذات الطابع المعنوي كالشعر أو سباق الخيل و المنافسة ذات الطابع المادي على موارد الحياة الرئيسة كالماء والمرعى والأرض عادة ما يكون هنالك تشابه في النتائج، فكثيراً ما تم اختزال الهوية أو الوطن أو ربما فُقدت تحت سطوة المنافسات القبلية على أمور صغيرة،  فتاريخ المنافسة القبلية ظل دموياً عبر تاريخه إلى أن سادت مرحلة الترف النفطي فتراجعت عن هذه الدموية وانشغلت بالترف مع محافظتها على بنيتها القديمة وتقسيماتها، ولكن لو تراجع هذا الترف يوما ما، في ظل مدن تكتظ بسكانها ومصادر طبيعية فقيرة، فربما ستقف القبيلة عندها كمرجع أساسي لطريقة الحياة، وستعلن عن نفسها كمحدد وحيد للهوية، وتفرض قيمها في طريقة التعامل مع الآخر حسب تعريفها له، بالضبط كما يروي تاريخها عبر الزمن.
   فالتعامل مع الحالة قد لا يكون مجديا فيه الوقوف كثيراً أمام استعصاء إحدى قيمها الأساسية على التطويع، بل ربما يكون في السؤال عن مبررات وجود الحالة واستمرارها من الأساس، فوجود الحالة القبلية يعني سيطرة المفاهيم القبلية، ومن ثم الارتباط النفسي بقيمها التاريخية الموروثة، لذا فالحديث عن القبلية كنسق اجتماعي شامل متحكم مسيطر ومؤطر لتدرج الصلات الاجتماعية هو المحور الذي يجب السير عليه إذا أردنا تفكيك الحالة، فالروح القبلية تعني الالتزام الكامل بقوانينها وبروتوكولاتها، ومن ثم فالمطالبة المثالية للحالة القبلية بترشيد قيمها الأساسية والتعالي على القبائلية والقيام بترسيخ التقارب بين الفئات المتباينة قبلياً في المجتمع، أرى الاستجابة له تشبه الاستجابة للمطالبة بإيقاف كل أشكال المنافسة بين الشركات في السوق الحرة.
   وتكمن الإشكالية الأكبر في النظام القبلي في أنه نظام مهيمن على المجتمع نفسياً، في الوقت الذي لا يقف عند أطر محددة في تعريفه للهوية، فالقوانين القبلية رغم ثباتها كقيم أساسية، فإن الانتماء ذاته في المفاهيم القبلية غير ثابت وغير محدد بشكل قطعي، فقوانين الهوية القبلية حسب أعرافها الأساسية مذبذبة، لا تستند إلى إطار واضح في تعريف ذاتها، فهي لا تقف عند حد معين في تضييق مفهومها للوطن كلما استدعيت لذلك، ويزداد الأمر غموضاً حول مستقبلها في هذا الخصوص إذا علمنا أن معطياتها التي بنيت عليها متباينة التعريف فيما بين الإرث الشفهي والتاريخ المدون الذي بدأ يبعثر الأوراق، ناهيك عن ما قد تفرزه السنوات المقبلة من إعادة النظر في كامل تركيبتها بعد تدخل المختبرات العلمية في الأمر.
   لذا فالهوية في الحالة القبلية من خلال ثبات مفاهيمها ومرونة أطرها تمثل عائقاً حقيقياً لوضع إطار شامل للهوية الوطنية، إذ لا يمكن إيقاف الانتماء في المفهوم القبلي عند حدود معينة لإعطائه إطار عرقي أو قومي محدد، فهي تختلف في عمقها وتأثيرها النفسي واستسلام الفرد لها وتصدرها القيم والأعراف والنظرة الشخصية تماماً عن القومية أو العرقية أو العنصرية للون أو الجنس ذات المفهوم القومي المؤطر الواضح والأشمل، والذي لا يتدخل فيما دون ذلك، فحتى القبيلة ذاتها بمفهومها الشامل قد لا تمثل إطاراً ثابتاً لمفهوم الانتماء، فداخل هذه المنظومة هناك منظومات أصغر وأصغر متداخلة وقد تنمو أيها لتتحول إلى وطن كامل في مواجهة الأخرى حسب القانون النفسي القبلي، ومن هنا فإن ما قد تفرزه حالة الكشف في الـ (DNAمن نتائج قد لا تفضي في ظل سيادة الحالة النفسية القبلية إلا إلى تغيير المراكز وإعادة التحالفات القبلية بصورة جديدة وعودة طبول القبائلية على أسس جديدة أكثر ثباتا مما يجعلها أسوأ من ذي قبل، ما دامت هي المسيطرة.
   فعندما نحاول الوقوف على واقع نفسية المجتمعات القبلية فسنجد روحاً يمتنع فيها نمو الحس الوطني أو القومي بمفهومه الأشمل لكون القبيلة الصغيرة تحقق في ذاتها بديلاً معنوياً كاملاً لمفهوم الوطن، وأعرافها تشكل إطاراً متيناً لتصرفات الشخص كمؤثر قوي وفاعل بديل للشرائع والقوانين والدساتير، لذا فلا شك أن الحالة القبلية تعمل على تفتيت المجتمع الأكبر وإثارة الروح العرقية في أضيق صورها، كما أنها عائق حقيقي لدخول المجتمع في الحياة المدنية التي تحمله على النهوض بذاته للدخول في معمعة المنافسة الكونية على التقدم العلمي والاقتصادي الذي دخلت غماره أمم بدأت التواشج مع العالم الجديد بعد أمتنا العربية بعشرات العقود وبدون أي موارد اقتصادية ثابتة غير عقول وسواعد أبنائها، بينما بقينا في ظل قيمنا الاجتماعية القبلية التي تفتقر للحماس الوطني والقومي وتحتقر العمل اليدوي ولا ترى بأساً في الارتزاق عبر التملق والمديح خارج اللعبة الكونية.
    كما أن الحالة القبلية قابلة بطبيعتها الانعزالية للتحول إلى حالة متمردة موجهة بما تمتلك من القوة حسب سيرتها التاريخية، فحتى وإن تلبست طابعاً طيعاً لقيم مرحلية تفرضها الحاجة، فهي قابلة للخروج على الواقع عندما تكون مهيأةً لذلك، فهي تجمع مركب غير نظامي يفتقر إلى الهدف، مفتوح على مدى الزمن، يمكن توجيهه للخروج عن المألوف في أي لحظة، والتاريخ العربي يحمل الكثير من الأمثلة، بدءاً من ارتداد القبائل العربية في اليمامة ونجد والحجاز واليمن وعمان بمجرد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وما سببته من خسائر للدولة الإسلامية، إلى خروج القرامطة مدججين بمجموعة من القبائل العربية واجتياحها للجزيرة العربية بما فيها مكة وتجرؤها على هدم الكعبة وانتزاع الحجر الأسود، إلى خروج قبيلة الرئيس اليمني عن طوعه وطوع المعارضة واحتلالها للوزارات والإدارات الحكومية بقوة السلاح انصياعاً لنداء شيخ القبيلة الذي أصبحت أسرته تمتلك الورقة الأكثر تأثيراً في اللعبة السياسية في اليمن كما نرى الآن، إلى ما بين هذه الأحداث من حالات الخروج القبلي على الدول الإسلامية المتعاقبة.
   
   ولو راقبنا الوضع في اليمن الشقيق لأدركنا مدى صعوبة السيطرة على الحالات القبلية عندما تكون هي المحرك، ومدى خطورتها، وأثرها على مسيرة التنمية، في ظل حالة قبلية غير نفطية، فهنالك محافظات يمنية كبرى كمأرب وصعدة وغيرها من المحافظات الجبلية والصحراوية لا زالت قبائلها بعيدة جداً عن قدرات الحكومة اليمنية على السيطرة عليها سيطرة كاملة، وكل ما هنالك هو مهادنات يتم نقضها متى ما رأت القبيلة في ذلك مصلحة، ولا شك أن كل متابع يرى الأثر الكبير لهذه الحالة على عملية التنمية في اليمن، ويمكن أن نلاحظ دور القبيلة السلبي عندما نراقب ما يجري من اندفاع حقيقي جماعي في عمليات الانضواء التلقائي في التجمعات المشبوهة خلف قرار القبيلة دون أي تردد، ما يمكن أن يوظف من قبل بعض الأطراف بمساعدة جهات أجنبية ذات أجندة مختلفة، فالانضواء إلى الجماعة الحوثية في صعدة مثلاً أخذ بعداً قبلياً مع أنها جماعة دينية سياسية يفترض أن الاقتناع بأفكارها تحمله القناعات الشخصية، ولكن ما حصل هو أن القرار الفردي كان مسيطراً عليه قبلياً، فتقرره القبيلة وعلى  الفرد التسليم، فهذه القبيلة أصبحت حوثية وتلك ضد الحوثيين، بعيداً عن القوانين الحكومية أو القناعات الشخصية، وقد نجد أقوى الأدلة على تعارض المفهوم القبلي مع المجتمع المدني عندما نراقب ما يجري حالياً على أرض اليمن، حيث اتجه مجموعة من الطلبة في جامعة صنعاء إلى قيادة مظاهرات سلمية لتغيير النظام لإقامة الدولة المدنية الديموقراطية على غرار ما حدث في تونس ومصر ذات المجتمعات المدنية، وبعد عدة أيام من المظاهرات التي لم تتوقف بدأ الدعم لهذه المظاهرات من خلال إعلان بعض شيوخ القبائل الانضمام إلى الثورة المطالبة بتغيير النظام وسارت خلف الموجة القنوات الإعلامية المؤيدة للثوار فترى كل يوم خبراً عن شيخ قبيلة انضم للمعارضين، وفي اليوم التالي يحضر ومعه أعداد كبيرة من أبناء قبيلته للانضمام لساحة التغيير بصنعاء حاملين لوحة تفيد بتأييد القبيلة للثورة، وعندما تبحث في أسباب اقتناع بقية أفراد القبيلة بفكرة المعارضة دفعة واحدة بمجرد إعلان الشيخ عن توجهه، لا تجد أي إجابة سوى الحالة القبلية المهيمنة على المجتمع، والتي جعلت أفراد القبيلة يستسلمون لرغبة شيخهم الذي يدعم المطالبة بالديموقراطية والحياة المدنية التي من أولويات مبادئها كبح نفوذه القوي على أفراد القبيلة التي وصل إلى مشيختها بطريقة غير ديموقراطية، فأي حرية وحياة مدنية قد تحملها هذه الحالة القبلية للمجتمع اليمني.
   والتركيبة القبلية في المجتمع السعودي والخليجي هي امتداد حقيقي وصورة مطابقة للحالة في اليمن، ولكنها كامنة تحت سيادة الترف النفطي الحالي، وهنا فلنا أن نتساءل، هل يستطيع مجتمع تسود فيه الحالة القبلية أن يستثمر الحياة المدنية.
   ولتاريخ القبلية وأثرها على المدينة وتدمير الحضارة دور حافل في تراثنا العربي فقد انتقلت القبائل العربية حاملة نزاعاتها وعصبياتها من الجزيرة العربية وصحاري سواد العراق وبلاد الشام وسيناء إلى دمشق وبغداد والفسطاط وقرطاجة وغرناطة وأشبيليا وقرطبة وغيرها ما أدى إلى نزاعات دموية فقدت فيها الكثير من الأنفس وتركت إرثاً من التباغض والتنافس في الدولة الإسلامية حتى تفككت إلى دول وطوائف في الأندلس وفي الشام والعراق دمرت دولة وحدتها لتقوم على أشلائها دويلات قبلية صغيرة فهذه دولة حمدانية تغلبية وتلك خزرجية أزدية وتلك قيسية وكل منها تحارب الأخرى، حتى دخل إلى الحكم أمم من غير العرب ممن يملكون وحدة قومية شاملة أقوى منهم فسيطروا على مجريات الأمور، ولعلهم أنقذوا التاريخ الإسلامي من الانحطاط أمام الغزوات الصليبية وبداية النهضة الأوروبية لقرون حتى سقطت آخر هذه الدول ليعود العرب إلى تكوين دويلاتهم التي عادت سطوة الروح القبلية بداخلها كما كانت منذ فجر التاريخ.
   ولكن ...، ومع كل ما أوردنا من دلائل على خطورة سيادة القبيلة على بنية المجتمع في عصرنا الحالي، وعلى انتهاء دورها، وضرورة التدخل لتحرير المتجمع من سيطرة مفاهيمها، إلا أن هنالك الكثير من الأمور التي يجب أخذها في الحسبان قبل أي محاولة للتدخل في هذه التركيبة وهي :  
   أولاً: إن انتهاء دور القبيلة في هذا العصر لا يعني أن نعتبر القبيلة شيئاً مقرفاً يجب أن نمحو أي أثر له تاريخياً، أو أن نحاول إعادة صياغة دورها التاريخي على أسس جديدة، فالقبيلة هي الأساس الذي بنيت عليه حضارتنا العربية كاملة، كما كانت الرافد الأول لجيوش الفتوحات الإسلامية، وكانت الرافد الأول للمجتمعات السكانية المدنية، وأزجت بالكثير من العلماء والفقهاء ورجال الأدب والفكر للحواضر العربية عبر التاريخ، كما أننا لا نملك في تاريخنا العربي القديم ما هو أثمن مما تركته لنا هذه الحالة القبلية من إرث أدبي وأساطير وأخبار أذهلت المطلعين على تاريخنا، بل إن سيرتها تحمل نكهة خاصة في التاريخ العربي، كما أنه ليس من الموضوعية في كتابة التاريخ مطلقاً محاولة مصادرة وجودها بأثر رجعي.
   لذا يجب إنصاف القبيلة تاريخياً وحفظ الأدوار التاريخية التي حدثت على أساس قبلي كما هي دون زيادة ولا نقصان أو محاولة تحريف أو ما قد نعتقد انه تحسين للتاريخ، ففي ذلك خيانة للأمانة وتشويه للتاريخ وإفساد لمقاصده، فعندما ينتهي وجود القبيلة بيننا فكل القبائل هي "نحن".  
ثانياً: يجب أن نتفهم جيداً أن القبيلة ككائن موجود على مدى التاريخ كان لها دور كبير في خلق التوازن للمجتمع ومن ثم للفرد، لذا فهي في ظل وجودها في بيئتها تعتبر ضرورة ملحة، فالنظام القبلي هو نظام طور وكيف نفسه مع الوسط المحيط ومع تطور الزمن والمتغيرات المرحلية، فالبنية القبلية الموجودة في كل موقع وخاصةً في الجزيرة العربية قد لا تمثل وحدات عرقية نقية كما أسلفنا، وإن تلبست ذلك، بل هي في الغالب نتاج حراك اجتماعي مستمر تبلور عنه عبر الزمن تحقيق التوازن الذي يضمن سلامة الفرد وحريته، وهو توازن لم تخل به إلا الحوادث الكبرى كالكوارث البيئية من أوبئة أو مجاعات أو حروب كبرى أو خلافه
   وهنا فإن التدخل غير الحيادي في النظام القبلي ومحاولة الإخلال بتوازنه هو من أخطر الأمور التي قد يرتكبها من يتعمد الإخلال بها أو من لا يعرف عواقبها، فعندما نريد أن نكيف المنظومة القبلية مع حياة العصر، أو نحاول ترقية القبلية إلى مستوى الوطنية من خلال تفكيكها أو دمج عصبياتها في عامل مشترك أكبر يحتوي كل الوطن،  فإن من الحماقة أن نتجاهل التوازن القبلي وأثره، لذا يجب أن نكون أكثر تفهماً لخطورة الإخلال به حتى وإن كنا نؤمن بأن القبيلة لم تعد عضواً إيجابياً في جسم المجتمع، فمن غير المنصف مثلاً أن نفتت المنظومة القبلية جزئياً في جانب ونكرس تكتلها وعصبيتها على جانب آخر في نفس البيئة، فندع جزءاً منها يحمل عصبيته وخصوصية كتلته بينما يفتقد الجزء الآخر لهذه الروح حتى وإن ادعينا محاولة إيجاد قواسم مشتركة أبعد لهذه الأشتات التي صنعناها في مجموعها مع البقية، إذ أن بقاء البيئة القبلية والتي تحمل بالضرورة في طيها الروح القبائلية، والتي هي روح انحيازية كما يصفها الغذامي سيعني سيادة قوانينها ذات المفهوم القابل للضيق إلى أقل حيز، مما سيلغي خلال ذلك أي أثر لكل القواسم البعيدة، بالإضافة إلى أن مصداقية مثل هذه القواسم الهشة قد تكون مثار تشكيك موثَّق لدى من يجد في ذلك تحقيق غاية في المستقبل، لذا فقد نواجه في مثل هذه الحالة انتقاصا لمكانة ذلك الجزء من المجتمع الذي تورط بتوشح ما ألبسناه له من رداء قد يخلعه الآخرون عنه بكل سهولة، بعد أن نكون قد فرضنا تأصيل تفتيت كتلته الاجتماعية نفسياً وأفرغناه من كامل إرثه في هذا الخصوص، مما سيكون معه إعادة الأمور إلى نصابها أمراً غير متحقق، وسنفرض من ثم تغيراً في طبقات المجتمع على المدى البعيد، مما قد يحدث الغبن لدى فئة دون أخرى، فقد أدى التشتت أو مجاورة القبائل الكبرى لانتقاص القيمة المعنوية، بل وإسقاط الصفة القبلية عن الكثير من القبائل العربية الصغيرة، وخاصة في وسط وشمال الجزيرة العربية كما يقول الشيخ حمد الجاسر، وظل هذا الانتقاص قائماً حتى هذه اللحظة
 لذا فلا بد أن يكون هنالك توازن حقيقي شامل في عملية تكييف القبيلة مع طابع المجتمع العصري لإنهاء سيطرة دورها اجتماعياً وسياسياً، وألا نعتمد الكذب والتزوير والسخرية كأساس لذلك.
 فإما أن يتحرر المجتمع كله من القبلية بشكل كامل شامل ... أو فليبق على تركيبته الموروثة، ولنمنع العبث.
   وعندما نبحث عن تجارب نفسية حية بين أيدينا توحي لنا بما قد تنضح به عملية التلاعب بالتوازن القبلي في بيئة معينة فلنا أن نرى ما يجري في حواضر الجزيرة العربية وخاصةً في المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج في مجتمعات مستقرة كانت قد تخلت عن نمط الحياة القبلي في القرون السابقة ونسيته عبر الزمن وعاشت بأمان دون أن تحتاج إلى هذا النظام الذي لم يكن له مكان في إطارها المدني الذي يشكل حالة أكثر تقدماً من الناحية الاجتماعية، بينما كانت البيئة القبلية تملأ الفراغات بين هذه الحواضر بمعزل عنها.
  ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن القبيلة بعد أن توارت في المراحل السابقة في هذه المدن عادت بقوة إلى الساحة في العصر الحديث وفي نفس البيئة، بل وأصبحت أحدث أدوات العصر التقنية هي طبول غمارها الجديد، فلكل قبيلة موقع على الإنترنت يسرد انتصاراتها على القبائل الأخرى، وهنالك عشرات القنوات التي تبث كل يوم المفاخرات القبلية بدءاً من المسابقات الشعرية وما يحدث فيها من الاستنجاد بالقبيلة للتصويت والدعم، وحماسها بالفعل في ذلك، إلى مزايين الإبل التي تقام مسابقاتها وحفلاتها على أساس قبلي وتصرف عليها الملايين، إلى قنوات "العرضات" القبلية والمحاورة والمجادلات الشعرية التي تأخذ الطابع القبلي في الكثير من الحالات، إلى الاحتفالات القبلية المنقولة عبر الأقمار الصناعية، وهنا فإننا أصبحنا أمام واقع مستقبلي غير مضمون ولا محدد الاتجاه من حيث إمكانية التخلص من هذا الإرث الاجتماعي الدخيل على المدينة في المدى المنظور، فالقبلية عادت لتتصدر وبقوة ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى إمكانية تنحيها ذاتياً خلال هذه المرحلة، ولاستيعاب ما يجري فيجب أن ندرس أولاً تطورات الوضع الاجتماعي في المدن السعودية والخليجية، والتي أدت لمثل هذا النكوص.
   حتى نهايات القرن الهجري الماضي كانت نظرة سكان الحواضر في المملكة العربية  السعودية إلى كل من يحمل اسماً قبلياً هي نظرة سلبية تحمل فوقية المدينة على البادية في معظم المدن السعودية، إلا أنه مع استمرار دخول أعداد كبيرة من هذه القبائل واستيطانها لتلك المدن مع ما تحمله من عصبية تحولت الأكثرية في هذه المدن إلى قبائل تفاخر بأصولها القبلية وتفرض واقعاً اجتماعياً جديداً ينتقص الآخر والذي هو أهل الدار الأساسيين بإطلاق مسمى "الحضر" عليهم، وهو مصطلح يشير إلى الدونية في المجتمعات القبلية، كما أن الحمية التي كانت تدير الحروب القبلية هناك أصبحت تدير النزاعات والتحيز في المدن وفي المواقع الحكومية خاصةً بعد حصول أجيالهم الجديدة على مستوى تعليمي جيد، مما جعل أهل المدن الأساسيين يتحولون إلى أقلية في عقر دارهم، وهنا فإن جل الأسر المتحضرة والتي منها من تتمتع بمواقع جيدة اجتماعيا ومناصب عالية حكومياً وبالتالي يفترض أنها في غنى عن البحث عن مثل هذه الأمور اتجهت إلى البحث عن أصولها القبلية بقوة ومحاولة تأصيل وإشهار انتمائها إلى قبائلها الأساسية، فترسم شجرة العائلة منسوبة إلى إحدى القبائل الكبرى وربما تجتهد في تكريس ذلك حتى في الهويات، وتستحدث مواقعاً على الإنترنت ترسخ انتمائها القبلي، وهي التي كانت تحتقر القبيلة وبدويتها مع بداية دخول تلك القبائل إلى مواطنها.
   والتفسير الأقرب لفهم ملابسات هذا التحول السريع هو أن نوع من  الإحساس بعدم الأمان كان هو الدافع لمثل هذه الموجات من البحث عن الهوية القبلية كسند أمني في ظل غلبة تنامي الروح القبلية في البيئة المدنية، فالقبيلة هنا أصبحت ضرورة للحصول على الدعم النفسي وضمان الاستقرار في الطبقة الاجتماعية ومأمن من حوادث الدنيا الأخرى، وداعم جيد على المستوى المعنوي وحتى على  المستوى الحكومي، فقد أصبحت القبيلة تشكل تكتلات فعلية في المجتمع، لذا بات من المهم الانضمام إلى كتلة تشعر الفرد بالأمان وتمكنه من الحصول على الدعم عند الضرورة في ظل تكتل الآخرين، وكل ذلك في ظل فشل النظام الاجتماعي المدني المحلي الهش في فرض مفاهيمه على أرضه، وفي ظل تماهي الإعلام المحلي مع الوضع الجديد من خلال فتح المجال للقنوات المختلفة التي تقرع طبولها.
   والمجتمع العربي ليس بدعاً في مثل هذه الردة الحضارية، فهناك من يرى أن حتى مشروع الحداثة في الدول الغربية قد فشل في تحقيق غايته في إزالة الفروق العرقية فيما بعد الحرب العالمية الثانية مستشهداً بأحداث أوروبا الدامية في البلقان والنزاع العرقي والعقائدي في إيرلندا وفي أسبانيا وغيرها، كما أن ارتفاع مستوى التعليم والرفاهية في العالم المتقدم لم يؤد إلى المزيد من التسامح، فقد سقطت ثمرة جوز الهند الأمريكي قبل أن تنضج، فاللون والمعتقد في المجتمع الأمريكي مثلاً لا زالت قيماً أساسية غير قابلة للمحو أو التعديل، مما يدل على أننا أمام عودة  للبحث عن الهويات الأصولية على مستوى الكون.

   إلا أن عملية إنهاء الروح القبلية، وتهيئة المجتمع للدخول في عصر المدنية والتقدم قد لا يحتاج إلى فكرة جوز الهند الأمريكي في مجتمعنا، فهي متاحة في ظل هشاشة فروقات العرق أو اللون أو المعتقد بين هذه المجاميع المتداخلة ذات اللسان والعرق الشامل والوطن الواحد من خلال عمليات شاملة تتخلى تماماً عن الطرق القديمة في التعامل معها، وهذا لا يكون إلا بتحرك مدروس وحاسم يوقف تحركات العابثين بهذه الروح ومحاولة استغلالها وتسخيرها لأهدافهم، ويوفر البدائل الواضحة الأهداف لها، كما هو الحال في كل الدنيا، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ويميل إلى التكتلات الاجتماعية، وإذا لم تتوفر بطريقة نظامية واضحة على أساس تمايز الأفكار، فقد يلجأ إلى طرق أخرى في الظل، وسيادة الحالة القبيلة بصفتها المتاح الوحيد في هذا الخصوص له الكثير من السلبيات ولعل أولها أنها تلغي جميع القواسم المشتركة للوطن فيما دون السلطة، وهذه الحالة تخلق إشكالاً في مفهوم الوطنية والشعور بالانتماء للوطن، وهي حالة قد لا يظهر أثرها إلا في حالة الأزمات الحقيقية التي قد تعصف بالوطن كالأزمات الاقتصادية الشديدة، ورغم أن الحالة القبلية لعبت دوراً محورياً في تأسيس وتوحيد هذا الوطن، إلا أنه يجب أن نعي أن حماس القبيلة ليس مرتبطاً بالقيم والمحفزات نفسها دائماً خاصةً مع تغير المستوى الثقافي لأفراد القببيلة، ومن المهم التنبه إلى أنه خلف الكواليس هنالك الكثير من الجهود للعب على أوراق القبيلة لأهداف أخرى بعضها حقق تجاوزات كبيرة من خلال النشاط الكتابي واستغلال وسائل التقنية والاتصال الحديثة وتمكنت من حشد الجماهير في الظل، فالحذر لم يعد مبرراً لتجاهل هذه الحالة في ظل نمو المستوى الفكري للشعوب في كل الأرض في عصر التواصل الكوني والذي لم ينتج عنه تراجع النزعات العرقية التي قد تسيطر على الموقف في أي لحظة.

٢٠١١م