الخميس، 2 مايو 2019

رواية اسلام اهل جرش


   لا زال هنالك الكثير ممن يدندن حول قصة صرد بن عبدالله الأزدي  ويستدل بها على الأنساب، إذ طغى حديث قصة الصرد بن عبدالله على رواية دخول الاسلام جرش في هذا العصر على ما سواها. وكي تتضح الحقيقة حول قصة دخول الإسلام لجرش، إذ أن هذا حق مستحق للجرشيين. فمن الظلم مثلاًَ أن تروى قصصا حول إدخالهم عنوة للإسلام، ويتجاهل ما سوى ذلك، إذا كانت الحقيقة غير ذلك، لذا سنعرض هنا ما جاء حول دخول الإسلام لجرش ونقيِّمه.
  

   لقد ورد في خبر دخول الإسلام لجرش روايتان، إحداهما هي رواية ابن اسحاق في السيرة والتي نقلها عنه كل من أوردها بعده كالطبري والبيهقي وابن الأثير وابن كثير، وتذكر حدوث حروب ونزال تمكن فيه صرد بن عبدالله الأزدي من هزيمة أهل جرش وخثعم ومن ثم ولاه الرسول rعلى جرش، وهي الرواية التي تبنتها الكتابات الحديثة في منطقة عسير عن دخول الإسلام للمنطقة.
   أما الرواية الثانية وهي رواية قدامة بن جعفر والبلاذري والبكري وغيرهم، "، وهي تتحدث عن إسلام أهل جرش سلما وبدون حرب ومن ثم ولى النبي r عليها أبو سفيان بن حرب. وهنا سننقل الروايتين ونرى من خلال التحليل والاستقراء أيهما يمكننا أن نقبلها وستكون راجحة وأيهما ستكون مرجوحة، أو ربما مستبعدة.

الرواية الأولى قصة "صرد بن عبدالله الأزدي".

جاء في كتاب السيرة لابن اسحق والذي نقله عنه ابن هشام ما يلي:




"قدوم صرد بن عبد اللَّه الْأزديَّ 


إسلامه 



قال ابن إسحاق: وقدم على رسول اللَّه r صرد بن عبد اللَّه الْأزدي، فأسلم، وحسن إسلامه، في وفْد من الأزد، فأمّره رسول اللَّه r على من أسلم من قومه. وأمروه أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبل اليمن. 


قتاله أهل جرش 



فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله r حتى نزل بجرش، وهي يومئذ مدينة مغلقة، وبها قليل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم، فحاصروهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها منه، ثم إنه رجع عنهم قافلاً حتى إذا كان إلى جبلٍ لهم يقال له شكر، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزماً، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلاً شديداً. 


إخبار الرسول وافدي جرش بما حدث لقومهما



وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله r بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله r عشية صلاة العصر، إذ قال رسول الله r بأي بلاد الله شكر ؟ فقام إليه الجرشيان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك يسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر؛ قالا: فما شأنه يا رسول الله ؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن، قال: بجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما إن رسول الله لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله r فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما؛ فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم، فخرجا من عند رسول الله r راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصلبهم صرد بن عبدالله، في اليوم الذي قال فيه رسول الله r ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر. 


إسلام أهل جرش



وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله فأسلموا، وحمى لهم حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة، وللمثيرة، بقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد: وكانت خثعم تنال نصيب من الأزد في الجاهلية، وكانوا يعدون في الشهر الحرام:



يا غزوة ما غزونا غير خائبـــة = فيها البغــال وفيها الخيل والحمر



حتَى أتينا حميرا في مصانعها = وجمع خثعــم قد شاعت لها النّذر



إذا وضعت غليلا كنت أحملـه = فما أبالي أدانوا بعــد أم كَفـــروا" ... انتهى


هذه الرواية تواجهها العديد من الإشكاليات التي تجعلنا نقف كثيرا قبل قبولها ومنها:

1ـ الحديث "ضعيف مرسل"، ومجرد أنه ضعيف ومرسل يعني أننا لا نملك الحق في الاحتجاج به من الناحية الشرعية كحديث نبوي، ولكنه يظل رغم ذلك رواية تاريخية، ولكنها ضعيفة أيضاً، لانفراد ورودها كحديث ضعيف مرسل، نقل عنه البقية، ولم ترد مستقلة كخبر متواتر.

2ـ مدار الحديث في جميع المصادر هو رواية ابن اسحق، وقد نقلها عنه عدد من الرواة والأخباريين، ومن ثم فالمصدر الأساسي لهم جميعا هو ما ورد في كتاب السيرة الذي جمع فيه ابن اسحاق الغرائب التي لم يسبقه إليها أحد، وعنه يقول "محمد حميد الله" محقق كتاب سيرة ابن اسحاق المبتدأ والمبعث والمغازي: "وأكبر طعن طعنه به المحدثون هو أن ابن إسحاق يدلس الأحاديث. فروى الخطيب "أن أحمد بن حنبل ذكر محمد بن اسحاق فقال: كان رجلاً يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. ، سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبدالله إذا تفرد ابن إسحاق بحديثه تقبله ؟ قال لا والله، إني رأيته يحدث في الجماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا"، ويقول محمد بن طاهر البرزنجي عن ابن اسحاق:"فهو مدلس"، ومن ذلك ننتهي إلى أن المصدر غير موثوق، وهذا يضعف من الثقة بالرواية بدرجة كبيرة.

3ـ من الملاحظات على الرواية أن الوفد الذي ورد للنبي قدم باسم "وفد الأزد" والصرد بن عبدالله ورد اسمه في الرواية: "الصرد بن عبدالله الأزدي"، ولم يرد في الرواية ما يشير إلى أي انتماء لهم أدنى من الأزد !. وهذا أمر غير منطقي، فالأزد جذم عظيم من أجذام العرب، يتألف من قبائل وشعوب كبرى منتشرة في حينه على مساحات واسعة متفرقة من البلاد بدءاً من الشام، إلى العراق، إلى البحرين، إلى عمان، إلى المدينة،  إلى مكة، إلى الطائف، إلى تهامة، إلى السراة، ولا يصح أن يحمل احد الفروع الصغيرة اسم الكل، فقد قدمت منهم وفود، كان كل منهم يحمل اسم قبيلته الأدنى، ولم يقدم أيهم حتى باسم أي من الفروع الرئيسية من الأزد ، فقد ورد خبر وفد دوس، ووفد ثمالة، ووفد غامد، .. وغيرهم، فما بال هذا الوفد جاء يحمل اسم الأمة كلها، فهذا لا يوازيه إلا أن نسمع عن وفد معد أو وفد نزار أو وفد قضاعة، وذلك لم يحدث بديهياً، وهذا يدل على التكلف في الرواية، والبحث عن دلالة أسهل إلى القاسم المشترك، ممن لا يعرف المزيد من التفاصيل، فادعى واضعها أن وفدا مجهولاً مكوناً من عدة أشخاص، قدم من موقع غير معلوم، يدعي تمثيل الأزد كلها، فقبل منه ذلك، وكلف بمهام كبرى، فأداها، ولم يسأل ولم يخبر عما هو أدنى في انتمائه، وهذا لا يصح.

4ـ أورد الراوي أن حربا حدثت بين الصرد وأهل جرش ـ بعد تراجعه عن الحصار ـ عند جبل كان اسمه "كشر" وسماه الرسول (ص) "شكر"، بينما لا يوجد على أرض الواقع أي جبل اسمه شكر ولا كشر حوالي موقع جرش ولا حتى في حدود المنطقة، بل هنالك جبل مشهور اسمه "ضمك"، أطلق بعض الكتاب عليه "شكر" !، وهذا اجتهاد لا صحة له البتة، ولعل أوضح دليل على عدم وجود الجبل أن الباحث/ محمد بن احمد بن معبر الرفيدي والذي هو أحد أبناء تلك المنطقة ويعرفها جيداً، لا زال يبحث ـ في آخر أعماله في دورية القول المكتوب ـ حول موقع جبل شكر ويبدي رأيا (اجتهاديا) مخالفا  لما عليه البعض من أن جبل ضمك هو جبل شكر، ويقترح ـ مجتهدا ـ جبلا آخر.

5ـ الملاحظة الأهم هو أن متن الرواية يحوي الكثير من الغرائب، فلنا أن نتخيل غرابة أن الرسول (ص) والذي لا ينطق عن الهوى - يأمر الوفد الذي قدم بهدف التعرف والدخول في الإسلام، لا أن يتعلموا الإسلام أولاً حتى يرسخ الإيمان في قلوبهم، بل أن يحاربوا من يليهم من الكفار بذاتهم وتحت قيادة أحد أفراد الوفد !، والأعجب أن نجد الرواية تقول أن الرسول r بعد أن أمرهم بجهاد من يليهم من الكفار، يعود أثناء المعركة ليدعو الله بأن يرفع عن عدوهم الذي أبى إلا أن يقاتل دون كفره، ثم نجد ما هو أغرب من كل ذلك، وهو أن المجاهدين (المفترضين) الذين يدعون أنهم يقاتلون الكفار ليدخلوا في الإسلام، بعد أن انتصروا عليهم، يقول شاعرهم:

إذا وضعت غليلاً كنت أحمله                           فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا

إذن فالحرب التي خاضوها كانت دعوى الجاهلية !.

 فهل من اليسير علينا أن نقبل صحة رواية هذا الحديث الذي وصف من أهل العلم بـ(الضعيف المرسل)، والذي يشير إلى أن النبي r بدلاً من أن يدعو الوفد إلى التفقه في الدين ثم إلى دعوة من يليهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما جاء في كتاب الله (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، نجد أنه قام بتوجيه القوم الذين للتوا أسلموا - ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم - بمحاربة أعدائهم في الجاهلية باسم الإسلام، فاستغلوا هذه الأوامر في القتل وسفك الدماء، لا لنشر الإسلام، بل لتفريغ شحناتهم الجاهلية بدعوى الجهاد ؟!.  

ومن الملاحظات أيضاً أن الرواية تشير إلى أن أهل جرش بعد أن غزاهم الصرد أرسلوا رجلين إلى يثرب "يرتادان وينظران"، وهو ما يدل على جهلهم بخبر ظهور النبي (ص)، وهذا مخالف للروايات الأخرى، حيث كان النبي (ص) قد أرسل قبل فتح الطائف رجلين من الصحابة إلى جرش ليتعلما صناعة الدبابات والمنجنيق والعرادات واستعمالها، ومثله فعل أهل الطائف استعداداً للمعركة، كما جاء في المصادر الأخرى.  

وعندما نضيف لكل ذلك ما يلاحظ من اضطراب الرواية وتناقضها مع غيرها، إذ الروايات الأخرى تشير إلى أن النبي r قد ولى أبو سفيان بن حرب على جرش بدايةً، ثم ولاه نجران وولى سعيد بن القشب على جرش، بينما الرواية التي بين أيدينا تشير إلى أن النبي r قد ولى صرد بن عبدالله على جرش.

وكل هذه الملاحظات مجتمعة تجعلنا نستبعد رواية ابن اسحاق، فالواضح أنها لم تكن إلا واحدة من رواياته التي حبكها الوضاعون فنقلها في كتابه، وما أكثرها.

 ومما يجعلنا نؤكد على التخلي عن هذه الرواية كليا أن هنالك رواية أخرى أكثر توازنا وموثوقية من هذه تناقضها، وتتوافق مع بقية الأخبار في المصادر التاريخية الأخرى، وممن رواها قدامة بن جعفر صاحب الخراج، والبلاذري والبكري وغيرهم، وقد جاءت الرواية كما يلي: 

" تبالة وجرش

حدثني بكر بن الهيثم عن عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: أسلم أهل تبالة وجرش عن غير قتال، فأقرهم رسول الله r على ما أسلموا عليه وجعل على كل حالم ممن بهما من أهل الكتاب ديناراً واشترط عليهم ضيافة المسلمين وولى أبو سفيان بن حرب جرش"



 
 وكما نرى فالرواية هنا مختلفة عن تلك، وهي تنفي حدوث القتال، وهذه الرواية بالإضافة لاتصافها بالاتزان، فإن انفرادها بالإشارة إلى وجود أهل الكتاب في جرش وتبالة يعطيها مصداقية أكثر، فهي دلالة على أن كاتبها لم يقلد أحداً، ولم يراعِ أحداً، وأن الرواية التي خلت من الأساطير تواترت عن مصدر يحمل درجة جيدة من المصداقية، بل ان أحد مصادرها هو أحد دلالات المصداقية لهذه الرواية، وهو قدامة بن جعفر ـ صاحب الخراج ـ، فقد ولي الرجل سجل الخراج وقضى زمنا عليه، وتنقل خلال ذلك بين المدن واطلع على سجلات الخراج، ولعل في النص ما يدل على صلتها بسجلات الخراج حيث ورد فيه أن النبي وضع على كل حالم ممن بها (أي جرش) من أهل الكتاب دينارا وفرض عليهم ضيافة المسلمين، ولعل هذا مما يفترض أنه مقيدا في سجلات  الخراج، وأنه كان موكلا لصاحب الخراج العمل على استمرار تنفيذه، ما يعطي دلالة على مصدر ذو موثوقية جيدة وارتباط مباشر بالخبر، ومما يقود إلى المزيد من التأكيد على صحة هذه الرواية إشارتها إلى أهل الكتاب في الحاضرتين المذكورتين مصداقاً لما تحمله المصادر الأخرى السابقة واللاحقة، فقد كان هنالك يهود ونصارى بالفعل في حواضر منطقة عسير كجرش، وترج تجاهل وجودهم الخبر الأول، والذي يتحدث عن قبيلتين متحاربتين (خثعم والأزد)، ولم يرد به أي شيء يشي عن الطابع الحضري لجرش، ولا عن وجود أهل الكتاب (اليهود والنصارى) فيها، وهو الخبر الذي حملته بقية الأخبار المتواترة عنها، ومن ذلك ما جاء في الحديث المتواتر عن عبدالله بن عمر أنه: "قدم رجل نصراني من أهل جرش تاجراً فكان له بيان ووقار، فقيل: يا رسول الله، ما أعقل هذا النصراني... ، إلى آخر الحديث"، والحديث  باستقراء مدلولاته، يمكن اعتماده كمؤشر دال على مفهوم عصره، من حيث وجود النصارى (أهل الكتاب) في جرش وتبالة، ومما يؤكد ذلك ما ورد في نص وثيقة يهودية كتبت في بداية (القرن السادس للهجرة) حيث تشير إلى أن اليهود كانوا يتواجدون في "ترج" (إحدى مدن منطقة عسير المجاورة لجرش) إلى القرن الهجري الخامس، ففي رسالة ابن ميمون (الراب موشيه بار ميمون) المعروفة باسم (رسالة إلى اليمن) إشارة إلى "مجموعة ترج" كأحد مجموعات اليهود الناشطة على مستوى الوطن العربي في حينه، (القرن الحادي عشر للميلاد/ القرن السادس للهجرة)، و"ترج" هي إحدى الحواضر في منطقة عسير، وتقع فيما بين مدينتي جرش، وتبالة، ولا شك أن هذا الوجود اليهودي في ترج في تلك المرحلة، ووجود النصارى واليهود في نجران المجاورة منذ العهد الجاهلي كما هو معلوم، واستفاضة وجود النصارى في جرش والتي تسوق إليها الأحاديث المذكورة، بالإضافة للطابع الحضري لجرش والذي تدل عليه اهتمامات أهلها واختصاصهم بالصناعات العسكرية والحرفية والتي عادة ما تكون من اختصاصات اليهود، بينما كان يأنف منها العرب، كل هذا يعطينا دلالة أولية على حضور سكاني لأهل الكتاب في العموم في منطقة جرش (المركز الحضاري والصناعي والتجاري الأكبر في المنطقة)، وهو ما يتوافق مع رواية البلاذري وقدامة حول وجود أهل الكتاب في جرش وتبالة - اللتان تحيطان بترج من الشمال والجنوب - وتقنين التعامل معهم من قبل النبي (ص)، ومن ثم تأتي رسالة ابن ميمون التي أشرنا إليها لتؤكد ذلك، لذا فهذه الرواية هي الأصح والمعتمد لدينا، وهو حق علينا جميعاً لأهل جرش في ذلك الزمان الذين أرسلوا وفدهم للنبي (ص) وأسلموا طواعية دون حرب أن نوضح ذلك. ... والله أعلم.