الثلاثاء، 10 نوفمبر 2020

أخطاء مزوري امتاع السامر في محاولتهم مجاراة مرحلة الطباعة المفترضة تفضح تزوير الكتاب

   رغم كل ما كتب وقيل عن دلائل تزوير امتاع السامر، من حيث استخدامه لمفردات ومصطلحات حديثة، ووصوله إلى معلومات لم تكن معلومة في مرحلته، مما يثبت أن تأليفه لاحق لمرحلة شعيب بعشرات السنين، إلا أنني فوجئت بأن هنالك من لا زالوا يدافعون عن حقيقة مصدرية الكتاب وانتمائه لشعيب، بل وعن صحة معلوماته الخيالية.  

   لذا سأعود هنا لتناول أحد أهم علامات التزوير في الكتاب مما كنت طرقته في كتاب "عسير والتاريخ وانحراف المسار"، وسأضيف واختصر، لإرشاد الضالين، وتنبيه الغافلين، وإقامة الحجة على من اتبعوا الهوى، ممن يظنون بانهم يحققون مكاسباً لقبائلهم او مناطقهم من خلال تلك الترهات التي ساقها المزورون في الكتاب، أو الكتب الاخرى المشابهه، للعودة للرشد والتبرؤ من سمات الغباء، وسيكون حديثنا اليوم حول طريقة طباعة الكتاب وظهوره للعلن ومدى إمكانية قبول أن يكون هذا الكتاب طبع عام 1365هـ في مصر المحروسة.

    ظهرت لكتاب إمتاع السامر متزامنة نسختان في العقد الأول من القرن الهجري الخامس عشر ، إحداهما كتب عليها "مطابع الحلبي ـ القاهرة 1365هـ"، أي أن تاريخ الإصدار عام 1365هـ، والثانية كتب على صفحتها الأخيرة (دار النصر للطباعة الإسلامية) بدون تاريخ نشر، ولكن في الصفحة الأخيرة وضع رقم الإيداع وهو 4040/1987 وهو ما يشير إلى أن الكتاب قد أودعت نسخة منه للنشر رسمياً قبل نشره بتاريخ 1987م أي ما يوافق عام 1407هـ ، والكتابان متطابقان في رقم الصفحة ورقم السطر وموضع الكلمة في السطر وحتى في الحركات ومواقع الفواصل والنقاط بل وحتى بعض الندب في الخلفية على امتداد صفحات الكتابين، أي أن الأخير صورة من الأول حسب المفترض، رغم  أن دور النشر مختلفة والمرحلة مختلفة حيث هنالك فارق زمني قدره اثنان وأربعون عاماً اختلفت فيها طريقة الطباعة كثيراً، والعجيب أن الأول طبع بخط متقطع بينما الثاني والذي يفترض أنه نسخ منه خطه متصل وأكثر وضوحاً، على غير المفترض، وما يعنينا هنا هو النسخة القديمة المدعى نشرها عن طريق شعيب الدوسري عام 1365هـ.

   في مثل حالة كتاب إمتاع السامر فإن المنطق يقول بأن  آخر ما يمكن أن نقبض على خطأ المزور فيه هو طريقة الطباعة لكون آلات الطباعة القديمة والتي سادت خلال فترة الأربعينات الميلادية وما حولها ظلت متوفرة إلى مرحلة خروج الطبعة إلى العلن (منتصف مرحلة الثمانينات)، كما أن الورق المستخدم في حينه لا زال متوفراً، كما أن جزءاً ممن عاصروا مرحلتها وعملوا فيها لا زالوا أحياء في حينه مما يجعل عملية إعادة الطباعة بنفس الطريقة القديمة ممكنة جداً، ومن البديهي جداً أن نتوقع من المزور أن يلجأ إلى المحاكاة لما أنتج خلال تلك الفترة من حيث طريقة الطباعة والغلاف وغيرها،  ولكن هذا لا يمنع أنه قد يغفل فيسقط في أي الأخطاء مما يكشف جريمته.

   ولعل أول ما يمكن أن نلاحظه في كتاب "إمتاع السامر" أن المطبعة استخدمت حرف (ي) المنقوط في نهاية الكلمات في كل صفحات الكتاب، وهي طريقة لم تكن شائعة في مصر ـ حيث طبع الكتاب ـ في حينه ، فقد عرف عن المطابع ودور النشر المصرية اختصاصها بطريقة طباعة الياء غير المنقوطة والتي تماثل الألف المقصورة، وكانت هي الطريقة السائدة في المطابع المصرية، أما في العصر الحديث ومع انتشار وسائل الطباعة الإلكترونية فلا زال عدد قليل منهم يتمسك بها كإرث مصري، بينما اتجه الأغلبية وخاصة الناشرون الجدد إلى التخلي عنها، وهذه المعلومة يبدو أنها غابت عن القائمين على طباعة نسخة إمتاع السامر الممهور نشرها بتاريخ 1365هـ (أي ما بين عامي 1945ـ 1946م)، فأخرجوا نسخة شاذة عن بيئتها في تلك المرحلة.

   كما يلاحظ في تنسيق الكتابة في كتاب إمتاع السامر الالتزام بضم الفواصل والنقاط بالجملة أو المفردة السابقة وفصلها عما بعدها، وهو نمط جديد في الطباعة شاع بعد مرحلة طباعة نسخة مطابع الحلبي التي صدرت عام 1365هـ/ 1945م بسنين عديدة.

غلاف امتاع السامر ونلاحظ أن الطباعة تمت بمصر بتاريخ 1365هـ/  الموافق 1946م








أعلاه عدد من صفحات كتاب امتاع السامر ونلاحظ الياء  المنقوطة على غير المعروف في المطابع المصرية حتى ذلك التاريخ كما نلاحظ الالتزام بالطرق الحديثة في الترقيم وذلك بربط الفواصل والنقاط وبقية علامات الترقيم بالكلمة (الجملة) السابقة بشكل كامل على خلاف جميع الاصدارات العربية في حينه.

   ولكي نستوعب تطور الطباعة العربية سنعرج على تاريخ الطباعة العربية باختصار، وسنعطي بعض الأمثلة على تطور الطباعة منذ بداياتها.

   تذكر بعض المصادر ان هنالك مطابع خاصة نحتت حروفها بالعربي في لبنان والاسكندرية منذ القرن السابع عشر باجتهادات خاصة، وانتجت هذه المطابع بعض الكتب، وتواجدت بعض المطابع في القرن الثامن عشر بالدولة العثمانية، بينما نشأت صحيفة مطبوعة بالمغرب في مرحلة لاحقة، إلا ان الملاحظ بعد تتبع أقدم المراجع والكتب المتاحة الآن بالإضافة لنمط الطباعة الأول والذي استمر خلال معظم القرن العشرين أن الطباعة بالأحرف العربية بشكل واسع وتجاري بدأت أساسا في الهند والتي كانت مستعمرة بريطانية، فيبدو أن البريطانيين قد حرصوا على الطباعة باللغة الهندية التي يفهمها المجتمع ويمكنهم ايصال رسائلهم إليه عبرها، وبالتالي ظهرت مطابع باللغة الأردية التي تكتب بالأحرف العربية منذ وقت مبكر، ومن ثم ظهرت لنا الكتب العربية المطبوعة في الهند بدايةً خلال القرن التاسع عشر، وإذ أنه كان ينقص الأحرف الهندية الألف المقصورة، والتي هي غير مستعملة في اللغة الهندية ، وحيث كانت الكتابة الهندية لا تراعي وضع النقاط تحت الياء عندما تكون في نهاية الكلمة، لذا استعملت الألف المقصورة والياء برسمة واحدة في الكتب المطبوعة باللغة العربية في تلك المرحلة.

 ومما يميز هذه المرحلة ان علامات الترقيم (الفواصل والنقاط ...)، وفصل المقاطع الكتابية عن بعضها لم يكن معروفا ولا سائدا في الطباعة، فكانت الصفحة كتلة واحدة، ولا ينفصل سوى العناوين، وهذا انموذج من الكتب الهندية:

كتاب حرب بني شيبان مع كسرى الصادر من الهند عام 1888م/1305هـ

صورة من كتاب حرب بني شيبان مع كسرى المطبوع في الهند عام 1888م، ونلاحظ الاسترسال وعدم فصل المقاطع، وعدم وجود علامات الترقيم ، كما ان الياء المتممة للكلمة غير منقوطة دائماً

   وقد انتقلت تلك المطابع الأوروبية ذات الأحرف العربية (الأردية) إلى مصر التي سارعت باستيراد المطابع في عهد محمد علي، وبدأت الطباعة في مصر في تلك المرحلة، وكانت في بدايتها مماثلة تماماً للطباعة الهندية بالضبط من حيث رسم الياء بنفس رسم الألف المقصورة (غير منقوطة) عندما تكون في نهاية الكلمة، ومن حيث الاسترسال (عدم فصل المقاطع عن بعضها)، وانعدام علامات الترقيم، فتكون الصفحة بكاملها مقطعا واحداً، وربما استخدمت بعض المطابع دوائر أو نجوم للتمييز بين المقاطع، كما كان متبعا في النسخ اليدوية من الكتب، فكان لذلك أثره في الكتب الصادرة في مصر خلال القرن التاسع عشر للميلاد وبداية القرن العشرين ومن أمثلة ذلك التالي:




الكتابان أعلاه طبعا في مصر وهي كل من أبي معشر الفلكي (طبع بداية القرن العشرين) وكتاب تسهيل المنافع (طبع عام 1900م) ويحمل الكتابان نفس سمات الطبعة الهندية أعلاه من حيث الياء غير المنقوطة وانعدام علامات الترقيم واتصال الكتابة بكامل الصفحة بدون مقاطع

   وقد تطورت الطباعة في مصر واتسعت ونشأت بها دور الطباعة الاحترافية، وأنحت الهند حتى أصبحت هي مقر الطباعة الرئيسي للكتب الصادرة من جميع الدول العربية، كما تطورت طرق الطباعة واستعملت علامات الترقيم (التي يبدو أنها كانت مهيأة في المطابع من الأساس، ولكنها لم تكن معلومة في الوطن العربي من قبل)، وكان ذلك خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين تقريبا، حيث دخلت بيروت بعدها على الخط وأصبحت مقرا آخر للطباعة يتجه له المؤلفون والناشرون العرب.

 ومن ثم وبدخول بيروت فقد بدأت طريقة جديدة في الطباعة، إذ أن المطابع المصرية استمرت في اعتماد الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمة، ربما لأن التغيير سيكون مكلفاً في الوقت الذي لم يظهر فيه اي أثر منظور على وضوح المعنى ، إذ استمرأ الناس القراءة بهذه الطريقة وفهمها بسهولة، بينما المطابع اللبنانية بصفتها جديدة فقد تلافت هذا النقص للتميز، لذا فقد طرأ تمايزا جديداً، وهو ما أطلق عليه الياء المصرية والياء الشامية، وبات سمة للفرق بين الطباعة هنا وهناك، ولكن لم يكن يعرف عنها الكثير من المؤلفين فما كانت ملفتة، ولكنها معلومة للمتخصصين في  الطباعة.

   أما من حيث علامات الترقيم فقد ظلت تستخدم بنفس الطريقة القديمة في كل مطابع الوطن العربي حتى بداية مرحلة الثمانينات،  إذ لم يتم تنظيمها بالطريقة الأوروبية، فكانت مطابع مصر ولبنان ـ وكل الدول العربية التي دخلت لاحقاً ـ  تضع علامات الترقيم ـ كالفاصلة والنقطة وغيرها ـ على مسافة واحدة بين الكلمتين، فيوضع (space) قبلها وآخر بعدها، لذا فكل الاصدارات العربية في مرحلة ما قبل الثمانينات (وربما أواخر السبعينات) من القرن العشرين لم تلتزم بربط علامات الترقيم بالكلمة السابقة. 

وسنعرض بعض الكتب الحاضرة ـ كعينة عشوائية ـ والتي طبعت قبل فترة الثمانينات الميلادية، ومعظمها بعد التاريخ المفترض لطباعة كتاب امتاع السامر، والتي يفترض أن تكون أكثر ارتباطاً بالمفاهيم الأحدث في تنسيق الطباعة بصفتها طبعت في فترة لاحقة:

 


أعلاه صورة الغلاف وصفحة من كتاب في بلاد عسير الذي طبع بمصر بتاريخ 1371هـ الموافق 1952م، ويلاحظ فصل وتوسيط الفواصل والنقاط والالتزام باستخدام الياء غير منقوط في نهاية الكلمة حسب الطريقة المصرية في الطباعة في حينه


 



غلاف وصفحة من الموسوعة الميسرة المطبوعة عام 1965م ونلاحظ الالتزام بالياء غير المنقوطة بصفته مطبوعة مصرية، وبوضع علامات الترقيم على الطريقة القديمة (غير مرتبطة بالكلمة السابقة) 



مجلة مصرية في فترة السبعينات طبعت عام 1973م ونلاحظ الالتزام بالياء المصرية (غير المنقوطة في نهاية الكلمات)، كما يلاحظ أنه حتى ذلك الحين لم تكن الطرق لحديثة في وضع علامات الترقيم قد استعمل إذ التزمت المطبعة بتوسيط العلامات بين فراغين.


   وما ذكرناه عن هذه الكتب ـ كنماذج ـ ينطبق على كل الكتب التي صدرت في نفس المرحلة من المطابع المصرية، حيث سادت الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمات، وينطبق على كل المطبوعات العربية في تلك المرحلة من حيث عدم اتباع الطرق الاوروببية في ربط علامات الترقيم بالكلمات السابقة.

   هكذا وجدناها جميعاً، ولكن امتاع السامر شذ عن هذه القاعدة، واستخدم طريقة حديثة في كتاب أقدم منها كلها، ما يدل دلالة واضحة على أنه مزور في مرحلة حديثة لم تسبق مرحلة الثمانينات الميلادية من القرن العشرين، ولا ينتمي لشعيب الدوسري الذي توفي عام 1946م  كما تقول نفس المصادر.

والله أعلم                                       

الخميس، 5 نوفمبر 2020

القط العسيري كبصمة من أثر اللغة والأدب العربي

 




   في لغتنا الدارجة هنالك الكثير من المفردات غير المعجمية والتي لا نجد لها أصولا في المعاجم ولا في اللغات الأخرى، وعادة ما نهملها بناء على عدم وجود شهادة قديمة بفصاحتها، بينما هنالك الكثير من هذه المفردات هي كلمات عربية أصيلة، بل ربما تكون بعضها أعرق من معاجم اللغة ذاتها، لذا جهلتها، خاصة ما ارتبط بعادة أو مهنة أو فن متوارث منذ القدم، وهذه المفردات على درجة من الأهمية لسبر أغوار تاريخنا اللغوي والأدبي.

   أثناء القراءة في أحد المصادر شدني ما وقفت عليه من ورود كلمة "قط" في إطار مفهومها الذي نعرفه، في كتاب الله في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}، وقيل أن هذه الآية تشير إلى استهزاء المشركين بقوله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه} و {وأما من أوتي كتابه بشماله}، فهذه الآية تورد مسمى "القط" كنمط من الكتابة أو الكتب المدون بها، بينما "القط"  حالياً هو اسم نوع من الفنون الزخرفية القديمة والذي كان سائدا في أجزاء من منطقة عسير.

   وللتعريف بالقط، فهو فن زخرفة جدارية منزلية كان يمارس في حدود منطقة جغرافية محدودة في منطقة عسير، وهو عبارة عن خطوط ومثلثات ومربعات وانكسارات وأشكال هندسية مختلفة ورسمات تستخدم فيها أربعة ألوان وهي الأخضر والأحمر والأزرق والأسود، كلها تستخرج من البيئة المحلية، ولكل شكل (وحدة) من هذه الأشكال الهندسية مسماه الخاص، فتبدو عندما تدرك أسمائها وكأنك تقرأ (أبجدية زخرفية)، ويتكون القط في بنيته الشكلية الأساسية من أربعة خطوط مستقيمة تمتد بشكل أفقي ولكنها تنزوي حول النوافذ والأبواب وما يشابهها كالبرواز، وتعلو فوق هذه الخطوط الأشكال الزخرفية بسمك مختلف بين منزل وآخر ولكن عادة ما يكون عرض القط في حدود ما بين 20-60 سم في المتوسط، ويمتد على جميع جوانب المداخل والمجلس والمبسط، وربما كامل المنزل، ويبدأ القط من ارتفاع حوالي 60-100سم عن الأرض ويكون ما تحته مطليا بالأخضر (الخضار)، وما فوق القط يكون باللون الأبيض (الجص).



   وقد ظل هذا النوع من الفن مغمورا على مدى قرون كحال فنون مناطق العمق في الجزيرة العربية حتى أشار له الأستاذ محمد رفيع في بداية العقد الثامن من القرن الرابع عشر الهجري في كتابه "في ربوع عسير"، بعد أن استوطن قرية "رجال" في محافظة رجال ألمع، وعمل بها مدرساً، وزار مدينة أبها وتجول في القرى في بلاد عسير وما حولها، وكتب كتابه المذكور، وضمَّنه الإشارة إلى هذا النوع من الزخرفة في بلاد عسير سراة وتهامة.

   ثم بقي هذا الفن واسمه حبيس المنازل العسيرية وأوراق كتاب محمد رفيع، عدى بعض الصور التي ترد في كتب التعريف بالمنطقة والعمران بها، دون تفاصيل، إلى أن زار الكاتب الفرنسي "سيري موجير" مدينة أبها، واستقبله أحد الباحثين فتنقل مع مضيفه في منازل أبها القديمة وقريته "رُجَال" برجال ألمع، والمنازل القديمة بالقرى المحيطة بأبها، وكان من نتيجة ذلك أن فنّ القط لفت انتباه الضيف الذي كتب عنه، وبدأ الاهتمام إلى أن انتهى الأمر إلى تسجيل اليونسكو لهذا الفن كمنتج ثقافي بشري في شهر ديسمبر من عام 2017م بعد أخذ كافة المعلومات عنه، فاشتهر هذا الفن وعرف، وانتبه له الجميع واهتموا بمعرفة المزيد حوله، فاستجاب العرض الاعلامي لهذا الطلب واصبح اسم القط العسيري يتردد على الألسن.

   ومسمى القط هو من المسميات الخاصة بهذه المنطقة، وهو خاص بهذا اللون من النقوش بالذات، مما يحمل دلالة على أنه مسمىً يختص بعادة متوارثة لا زالت تؤدى بنفس الطريقة منذ القدم، لذا ظل الاسم ملتصقا بهذه العادة التي لم تتغير كما تغير سواها.

   فالقط هو مسمى قديم عريق في المنطقة، وكان له متخصصين في كل قرية أو مجموعة قرى، ومما أعرفه مثلاً من كبار السن أنه كان في قريتنا قديماً امرأة متميزة في فن القط يحال إليها أمره عادة، اسمها "زهراء" وهي أم "آل هقشة"، كل من: (الفاضل عبدالله، وأخوه فايز رحمه الله)، إلا أن مسمى القط انقطع تداوله منذ أن بدأ انتقال الناس للسكن في الفلل الحديثة مع بدايات مرحلة التسعينات الهجرية (السبعينات الميلادية).

   أثارَ هذا الفن منذ استعادة حضوره في الوسط الاجتماعي والإعلامي السؤال عن أصله، وأصل المسمى (القطّ)، واتضح أنه اسم قديم كان يدل على الخط والكتابة، أو على الصحيفة المكتوبة، ولعله ـ وهو الأرجح لدي ـ الأصل لكلمة "خطّ" التي حُرِّف نطق "قطّ" إليها على مدى الزمن، إذ أن دلالاته القديمة جداً تشير إلى نفس المعنى بالضبط، إذ أن الخط حالياً يعني في اللغة والمفهوم العام الكتابة، أو الرسالة، أو يعني الرسم الممتد طولاً، كأثر سير القلم المحبر على الورقة (أو في الجدار ـ كما هو القط)، بل إن الخط ارتبط بحسن الكتابة أو زخرفتها فنقول عن من يحسن الكتابة خطاط، وربما كان أصلها قطاط.

   ولكن متى كان مسمى القط سائدا بنفس الدلالة، ومتى انحصر في هذه الجغرافيا دون سواها، ومتى اندثر في بقية الدلالات التي أصبحت تحملها مفردة "خط" والتي تعني الكتابة، وتعني الرسالة والصحيفة المكتوبة، بينما لا يدل القط حالياً إلا على زخرفات جدارية موروثة منذ القدم محصورة في جغرافيا معينة.

   نعود إلى الآية الكريمة التي ذكرناها أعلاه، والتي تشير إلى لفظة "القط" في قوله (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا)، ونبحث عن المزيد عن المفردة والدلالات، لنرى مدى صلة القط العسيري بها، وكيف اتجه المفسرون في تفسيرها، وفي معرفة دلالة المفردة "قط"، والتي تحمل في اللغة معاني أخرى أكثر حضوراً منذ القدم كالقطع أو البتر.

   عندما نشاهد ما كتبه المفسرون والمحدثون حول معنى القط في هذه الآية نجد أنهم كانوا يجهلون معناها على أرض الواقع، إذ اختلفوا بين مرة وأخرى وبين مفسر ومفسر، واختلفوا حتى في الاشتقاق وقد اتجه جميعهم إلى الاستشهاد بأبيات من الشعر لأمية بن أبي الصلت، والأعشى، والمتلمس، وانتهى بعضهم إلى أنها اشتقاقا من القطع وبعضهم رآها مشتقة من القسط، وبعضهم اعتبرها تعني العذاب، وآخرون عدوها تعني النصيب، وهنالك من أدركوا المعنى اجتهاداً من خلال سياق الآية وسبب النزول ثم الأبيات ولكن بدون ثقة، فربطوها بصك الجائزة أو صك العذاب ... وهكذا، مما يسوق إلى أن المفردة لم تكن معروفة، ولا شائعة الاستعمال بهذا المعنى في مرحلة بداية كتابة هذه المؤلفات في النصف الثاني من القرن الأول وفي القرن الثاني ـ والتي هي مرحلة بداية التدوين ـ ثم ما بعدها.

   ولنبدأ بأقدم هذه المصادر وأكثرها اتصالا بموضوعنا وهو كتاب "غريب القرآن في شعر العرب"، وهو من مسائل نافع بن الأزرق (توفي65هـ) عن عبدالله بن عباس، وفي باب "ق ط ن"، قال:

" ق ط ن (قطنا)

قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا

قال: القطّ: الجزاء، وهو الحساب أيضا.

قال: وهل تعرف العرب ذلك؟

قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:

ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بنعمته يعطي القطوط ويطلق"

·        هذا الكتاب يعد من أوائل كتب التفسير، وهو متخصص بنقل غرائب القرآن، أي المفردات الغريبة التي وردت في القرآن مما لم يتعارف عليها الناس، وقد أورد كلمة "قطّ" الواردة في لفظة "قطَّنا" بصفتها من غريب الكلام الذي ورد في القرآن، وهذا كافٍ لنعلم بأن المفردة "قط" كانت مجهولة في ما بعد منتصف القرن الأول للهجرة، بل لم تكن من الكلمات المعلومة في عصر التابعين، وفي النص هنا أحد التابعين من اليمامة يستنكر المفردة ويسأل، ثم نجد أحد الصحابة يجيبه بأنها مفردة تعرفها العرب، ويشير إلى بيت الأعشى عن "القطوط" للاستدلال، ما يعني الحاجة إلى الشعر للإيضاح، بما يشير إلى أنها كانت في العصر الجاهلي متداولة ثم اندثرت، ولعلها كانت متداولة في الأساس في حدود معينة، ورغم أن عبدالله ابن عباس أجاب السائل وأشار لمعرفة العرب بها، إلا أن من الملاحظ أن جوابه كان مرتبطاً بالظاهر في سياق الآية وسبب تنزيلها وفي سياق البيت. وفي العموم فإن ورود المفردة في غريب القرآن بالإضافة لنص الرواية هنا يقرر بشكل واضح مجهولية المفردة وغرابتها في مرحلة التابعين خلال القرن الأول وما بعدهم.

   ومصدرنا الثاني هو أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى البصري (110هـ - 209هـ) الذي عاش على امتداد القرن الثاني للهجرة، فقد قال في كتابه "أوزان القرآن" في تفسيره للآية: " عَجِّلْ لَنا قِطَّنا" التالي:

"القطّ: الكتاب، قال الأعشى:

ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بأمّته يعطى القطوط ويأفق

القطوط: الكتب بالجوائز."

·        نلاحظ أن أبو عبيدة ورغم وقوفه على الآية وسبب نزولها وعلاقة المفردة في السياق بالكتاب، إلا أنه استدل ببيت الأعشى أيضاً للوصول لمعنى المفردة التي لم تكن شائعة في بيئته، ومع أنه أشار بداية إلى نفس ما ذكره نافع: بأن القط هو "الكتاب"، وهو ما يفترضه سياق الآية وسبب النزول وببيت الأعشى ، إذ أن الأعشى أشار ضمنيا إلى أن النعمان لم يدم وهو الذي كان يعطي الخطوط بالجوائز، ولكنه اختزل كلمة الجوائز لأن الدلالة مفهومة من خلال الاسم ذاته للملك الذي اشتهر بالعطايا (الجوائز)، ومن ثم فإن دلالة المعنى ظاهرة في الجملة دون تفصيل. ولكن أبو عبيدة حشر كامل دلالة البيت في المفردة، فبما أن المعنى ظاهره يشير إلى الكتب بـالجوائز، والتي لم ترد في البيت، إذن فالمفردة (المجهولة) تحمل كامل الدلالة عليها، بينما المفردة في حقيقتها تدل على الكتاب أو الخط أو الصحيفة المكتوبة، ولا صلة لها بالجوائز إلا من خلال الدلالة الضمنية في البيت، والدلالة الافتراضية (المشروطة) في الآية التي قد تحمل على الجائزة (أو العكس).

   أما محمد بن إسماعيل البخاري فقد قال في صحيحه في تفسير الآية :

"(عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قبل الحساب): "القِطُّ: الصحيفَةُ هو ها هنا صحيفَة الحساب" ....

  (قطنا) قيل حظنا من الجنة ويكون قولهم هذا استهزاء وقيل نصيبنا من العذاب ويكون قولهم هذا عنادا. وقيل القط الكتاب ويطلق على الصحيفة لأنها جزء منه وقالوا هذا الكلام استهزاء لما نزل قوله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه} / الحاقة 19 / و {وأما من أوتي كتابه بشماله} / الحاقة 25 /. أي عجل لنا كتابنا في الدنيا. وأصل القط القسط من الشيء لأنه قطعة منه مأخوذ من القط وهو القطع."

·        نلاحظ هنا ان البخاري الذي قال: (قيل أن القط الكتاب)، يسوق من خلال استخدامه لـ"قيل" إلى أن معنى المفردة غير معلوم له وغير متعارف عليه، ولكنه مسبوق في ذلك، ولكن المطاف انتهى به أيضاً إلى استنباط المفردة من المعنى الشائع فقال بأن القط هو القسط من الشيء لأنه مقطوع منه.

   أما  أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) في "غريب الحديث" ورغم أنه مسبوق إلى المعنى فقد ذهب بعيداً عندما قال:

"القطوط: الأرزاق وَاحِدهَا قطّ. قَالَ الْأَعْشَى: من الطَّوِيل ...

وَلَا الْملك النُّعْمَان يَوْم لَقيته ... بامته يُعْطي القطوط ويأفق ...

بأفق: يفضل وأصل القط الْكتاب وانما سمي الرزق قطا كَانَ لِأَنَّهُ يكْتب بِهِ الى النَّاحِيَة الَّتِي يكون فِيهَا حق السُّلْطَان من الطَّعَام فَسُمي باسم الْكتاب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَول الله جلّ وَعز: {عجل لنا قطنا} . القط: الْحساب. وَلَا أرَاهُ سمي قطا الا لِأَنَّهُ يكون بالكتب الَّتِي أحصيت فِيهَا أَعمال بني آدم. وَقَالَ المتلمس حِين نظر فِي الصَّحِيفَة وَعرف مَا فِيهَا وَأَلْقَاهَا فِي المَاء: من الطَّوِيل ...

ألقيتها بالثني من جنب كَافِر ... كَذَلِك أقنو كل قطّ مضلل"

·        ونلاحظ أن الدينوري رغم استشهاده ببيت الأعشى وبيت المتلمس التي كانت تشير إلى القط بمعنى "الكتابة" أو "الصك المكتوب، ورغم أنه قد دار في اطار المعنى عندما قال: (وأصل القط الْكتاب)، إلا أنه ذهب بداية إلى قياس بيت الأعشى على الأرزاق والآية على الحساب، بينما بيت المتلمس يدل على الصحيفة، فهو انساق مع خصوصية السياق في كل نص.

   أما إبراهيم بن السري بن سهل المعروف بأبي إسحاق الزجاج فقال:

"(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (القِط) النصيب، وأصله الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه قال الأعشى:

ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يوم لَقِيتُه. . . بغِبْطَته يُعْطِي القُطوطَ ويأْفِقُ

يأْفِقُ يُفْضِلُ.

وهذا تفسير قولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وهو كقولهم (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا) - الآية

وقيل إنهم لما سمعوا أن المؤمن يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله، فيسعد المؤمن ويهلك الكافر، قالوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا.

واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ. وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء."

·        ونرى كيف أن الزجاج أخذ يستشهد ببيت الأعشى ويستحضر ما ورد حول المعنى من سابقيه ولكنه عاد لينتهي به المطاف إلى القول: " واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ. وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء.

وهو نفس الذي انتهى إليه الكثير من الاتكاء على المعنى المشهور للمفردة وهو المرتبط بالقطع (القط).

   أما أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إدريس التميمي الحنظلي الرازي في كتاب "تفسير القرآن العظيم لأبي حاتم" فقد قال:

"قطنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا» قال مجاهد: «عذابنا» . كذا قال قتادة: "نصيبنا من العذاب" وقال الحسن: "نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا".

وقاله سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة رقط. قال الفراء: "القط في كلام العرب الخط والنصيب. ومنه قيل للصلاة قط"."

 

·        وهنا نجد الرازي ينقل معاني مختلفة لمفردة "قطنا" عن أعلام المحدثين مثل مجاهد (قال عذابنا) وقتادة (قال نصيبنا من العذاب) والحسن (البصري) (قال نصيبنا من الجنة لننعم بها) ما يدل على غرابة المفردة، فينتهي به المطاف إلى إيراد النصيب كمعنى للقط ليجاري خصوصية السياق في الأبيات والآية.

 

   أما بيان الحق محمود النيسابوري الغزنوي (ت531) في كتابه "باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن فقد أورد المفردة ضمن واحدة من المشكلات وقال:

"(عجل لنا قطنا)

ما كتب لنا من الرزق. وقيل: من الجنة ونعيمها. وقيل: من العذاب.

وأصله القطع، ومنه قط القلم، وما رأيته قط، أي: قطعاً، ثم سمي الكتاب قطاً، لأنه يقطع ثم يكتب.

قال أمية بن أبي الصلت:

قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلم."

·        ونجد أن بيان الحق قد أورد العبارة كمشكل ضمن مشكلات معاني القرآن التي أوردها في كتابه، وهو تصريح بمجهولية مفردة "قطنا" التي تقوم عليها، وغرابتها، وعدم تداولها خلال المراحل اللاحقة لصدر الإسلام. كما نجده يقع في نفس فخ الانقياد لخصوصية الدلالة في سياق الآية وبيت أبي الصلت، إذ يشير إلى معاني لا يبدو أنها تقف على المعنى المطلق للكلمة بعيدا عن السياق.

   وقد شرق وغرب الكثير من المفسرين والشراح والمحدثين سوى هؤلاء، ووقعوا في نفس اللبس، رغم أن أكثرهم اتكأ على من قبله ممن استفاد من سياق الأبيات المذكورة وسياق الآية، وهذا يسير بنا إلى أن المفردة لم تكن معروفة ولا متداولة منذ البداية، وأن مصدر التفسير لمعناها جاء من أبيات الأعشى وأمية بن أبي الصلت والمتلمس.

   ستكون معلومة قديمة، أن نستنتج مما سبق أن الشعر الجاهلي كان حاضراً بقوة في تفسير معاني القرآن، وفي إمداد معاجم اللغة والبلدان والأماكن والقبائل، ولكن ما جد هنا هو أننا وضعنا أيدينا على مفردة جاهلية اندثرت فيما بعد الاسلام، ولم ترحل مع من رحل إلى الكوفة والبصرة ودمشق وبغداد وسواها من عواصم العلم والسياسة والثقافة العربية إلا عبر الشعر الأصم الذي كان يتم استنباط معاني مفرداته النادرة ـ والتي لم يعد لها حضور في تلك الديار ـ من سياق أبياته فقط، ومن ثم إسقاطها على المعنى المفترض.

 ولكن هنالك من يقول أن ما حدث كان عكس ذلك !.

   أشار عدد من الباحثين بدايات القرن الماضي ضمنياً إلى أن القرآن كان بداية لغة أخرى لدى العرب، (انظر مرجليوث: أصول الشعر العربي وطه حسين: في الشعر الجاهلي)، ومن ثم فإن الشعر الجاهلي عند أصحاب هذا الرأي استنبط من اللغة الإسلامية (القرآنية)، أو لنقل أنه ابتدع للمفاخرة، والتقعيد للغة القرآنية التي لم تكن معروفة لدى العرب فعرفت مذ ذاك ، فورودها في الشعر لاحق للقرآن لا سابق له، يقول طه حسين ما مضمونه أننا إذا أردنا أن نفسر لغة القرآن فلا طريق إلا بالقرآن ذاته، أو ربما وبدرجة محدودة بالرجوع إلى القصص والأساطير العربية فهي على علاتها أصدق من الشعر في رأيه، ويشير ثيودور نولدكة (انظر: تاريخ القرآن) إلى أن القرآن أضاف الكثير إلى لغة العرب، وهنالك ممن جاؤوا بعدهم من يضربون على نغمة أن الشعر الجاهلي لا يصلح كمصدر لاستقراء التاريخ، نظرا لعدم الثقة به.

   ورغم أن الفكرة قد تهاوت إلى درجة كبيرة إلا أنه لا زال هنالك أتباع، كما أن الرفض الكامل لها غير وارد، إذ أن وجود الانتحال في الشعر العربي معلوم منذ القرون الأولى تحدث عنه المؤلفون العرب كالجاحظ وابن سلام والظبي وغيرهم، ولكنهم أشاروا لوجوده كحالات محدودة، بعيداً عن التشكيك في كامل الشعر الجاهلي كما فعلا، لذا فلا شك أننا بحاجة إلى المزيد من تلمس المدى الممكن لرفض أو تأييد مثل هذه الأقوال، فتنحية الشعر الجاهلي عن سردية التاريخ العربي يعني الكثير، ولكن هل يصح ذلك ؟.

   النقاش حول مجمل الفكرة تم اشباعه من قبل الكثير من الباحثين العرب، منهم ناصر الدين الأسد، وإبراهيم عوض، وعبدالرحمن بدوي، وحسين البهبيتي، وحسين مروة، ونولدكة، وغيرهم كثير، لا تحضرني أسماؤهم، أو أني لم أطلع على ما كتبوه، كما اهتم بدراسة المسائل الجزئية في الشعر الجاهلي الكثير من الباحثين الجدد الذين عنيوا بالأنساق، والدلالات اللغوية، والمشتركات، والمعالم، والأسلوب الفني، وغير ذلك مما يغطي جانبا معرفيا يشي بمدى الترابط في هيكله العام، وتماسكه.

   ومن خلال ما تقدم سرده نجد أن مفردة "القط"، والتي وردت مرة واحدة في القرآن، والتي أدرجت ضمن المفردات الغريبة في القرآن منذ وقت مبكر، قد أشكل الوصول إلى تحديد معناها الدقيق من قبل المفسرين منذ بداية مرحلة التدوين في القرنين الأول والثاني للهجرة، إلا من خلال استحضار أبيات الشعراء الجاهليين، ومقارنتها مع سياق الآية وسبب النزول، ورغم أنها وردت في الشعر الجاهلي ثلاث مرات على الأقل لدى ثلاثة شعراء، في سياق يرتبط بالمعنى، فإنهم اختلفوا وأشاروا ضمنياً إلى مجهوليتها بالنسبة لهم، ومن وصل منهم إلى دلالة مقاربة لم يثق في النتيجة.  

   ومن ثم فمفردة "القط" تعتبر عينة نموذجية لتلك المفردات القرآنية التي قد يُتَّهم المفسرون والشعراء في العصر العباسي باستحضار معناها عنوة باسم الشعر الجاهلي المبتدع، حسب الآراء التي ذكرنا.

   على الجانب الآخر فالمفردة ظلت تحمل معناها في جزء داخلي محدود من الجزيرة العربية، وتشير إلى فعل القلم على الصفحة البيضاء على جدران منازل العسيريين، مما يدل على الخط أو ما يشابهه من الرسم أو الزخرفة منذ ذلك التاريخ، في الوقت الذي جهل الجميع بما فيهم العسيريون أصل الكلمة القديم، فهي بالتالي ظلت تحمل معنى مخصصا لبعض العادات المرتبطة بالخط متوارثة منذ تلك العصور، مما يعطي مصداقية لما ورد في الأبيات ويدل على تلقائيتها ومصداقيتها، فالمفردة مجهولة في عصور التدوين معروفة في الشعر الجاهلي، ومن ثم فلعل الكشف عن هذا الفن (القط) للعموم قد أظهر لنا بصمة جديدة من أثر لغة الشعر الجاهلي في جزيرة العرب، التي كاد أن يمحو أثرها الزمن، وسجلنا شهادة أخرى لصالح درجة مصداقية الشعر الجاهلي، خاصة وأن الشعراء الثلاثة الذين أوردوها هم ممن شكَّك في شعرهم بل وفي وجودهم مرجليوث وطه حسين.

والله أعلم.