الاثنين، 18 أبريل 2022

جادة التاريخ العسيري ... كتاب أدنى من درجة الكمال ولكنه فوق الشبهات

 نسعى دائما لإتقان اعمالنا ولكن عمل الإنسان يظل ناقصا مهما اجتهد فالكمال لله ومهما اعتنيت سيأتي من يجد ان هنالك ما يجب اضافته لعملك وما يحتاج لتصحيح.

كما أن عملنا مهما كان بريئا صادقا فالناس منه على اختلاف بين من يهنئك على هذا العمل الرائع ومن يتهمك ومن يعترض على كل عملك ومن ينتقص عملك لمآرب أخرى، وكل له توجهه الذي يعلمه الله.

جادة التاريخ العسيري

   هذا الكتاب سعيت جاهدا لأن اتجرد فيه للحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وما ورد فيه لم يخرج عما ذكرته قبل اثنين وثلاثين عاما عندما قرأت امتاع السامر، وقبل عشرين عاما عندما جادلت حوله في المنتديات، وعما كتبته في كتاب "عسير والتاريخ ..." عام 2011م.

   فقط أضفت ما كنت ألمح إليه هنالك إيحاءً إلى النص الأساسي هنا بشكل صريح، فلا شيء أهدف الوصول إليه سوى الحقيقة، ولكنني رغم ذلك حاولت أحيانا أن أغلف هذه الحقيقة بغلاف جميل بما يمنع سوء الظن بالنوايا، كي لا أثير ردة فعل تثير نعرات أكون سببها. إلا أنني حرصت دائماً على أن لا يكون ذلك على حساب إظهار الحقيقة.

   فلا يوجد في  الكتاب أي نص او عبارة يمكن أن تسيء إلى الوطن وتاريخه، فالحقيقة التاريخية لا تسي أبدا للوطن، فالوطن شامخ بتاريخه وبرجاله الذين صنعوا هذا التاريخ، وكم أتمنى من كل من يرى في هذا الكتاب ما يفترض ان لا يكتب أن يحيطني بذلك. لأناقشه حول ذلك ويرى وجهة نظري، ولا مانع لدي من تغييرها عندما أجد أنني خرجت عن (الجادة) التي عنونت بها كتابي. 

 وقد استبعدت من هذا الكتاب قبل نشره فقرات لم اتمكن من التحقق منها بشكل كامل أو لنقل بشكل معقول، خاصة وأن الذاكرة أحيانا تستدعيك إلى البحث عن ابرة في كوم قش في فلاة. فتعطل كل عمللك بحثا عن عبارة تتذكر وجودها في احد الكتب الفوضوية كإمتاع السامر، لذا فقد تجاهلتها لوجود ما يكفي من الدلالات على الفكرة المراد إيصالها.

 وقد تمكنت من الوصول لإتمام إحدى هذه الفقرات، وسأضيفها للكتاب.

   سأعيد طباعة الكتاب الكترونيا متضمنا هذه الفقرة/الفقرات، وسأعمل بعد ذلك على طباعته ورقيا، وسأسعى ما استطعت لاعتماد ثلاثة من الكتب وهي كل من:  "الدرر المفاخر في أخبار العرب الاواخر" و"كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب"، و"لمع الشهاب في سيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" من قبل دارة  الملك عبدالعزيز بصفتها كتب منحولة ووثائق مزيفة كجزء من عملية تزوير كبيرة على غرار كتاب "امتاع السامر بتكملة متعة الناظر" الذي لم يكن إلا جزء منها. 

والله الموفق



الاثنين، 11 أبريل 2022

حول نظرية أن التوراة خرجت من جزيرة العرب

 


التوراة أو كتاب العهد القديم هو كتاب اليهود الذي يحوي قصصهم التي ورد جزء كبير منها في القرآن، ولكن كان في بعضه اختلاف ببين الكتابين، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا نكذِّب روايات اليهود ولا نصدقها. ومن ثم فإن التعامل معها يفترض أن يكون باعتبارها مصادر تاريخية قابلة للصحة او الخطأ، فهذا لا يتعارض مع ما قاله النبي (ص).

  ونحن عندما نقرأ الأخبار الإسرائيلية في التوراة نجد أن هنالك الكثير من المعلومات التي تتوافق مع النقوش الآشورية والأكادية والمصرية المختلفة فيما يخص الألفية الأولى قبل الميلاد، وربما امتد هذا التوافق إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث وجدنا أن أخبار العرب والقيداريين والتيمائيين والنبايوتيين والميديانيين والآراميين وسواهم ممن ذكرتهم التوراة ـ ممن لم تحط بهم الكتابات الكلاسيكية ـ موثقين في المسلات الآشورية مما يدل على مصدرية التوراة بالنسبة لهذه المرحلة، مع الأخذ في الاعتبار التحريف الذي تعرض له التوراة على أثر النزوع للمبالغة والذات المتضخمة عند اليهود.

 ولكن هنالك من لهم آراء أخرى!.

   منذ أن فجر الدكتور كمال الصليبي نظريته حول الجغرافيا التاريخية لروايات التوراة اليهودية في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" والتي توصل فيها من خلال المقارنات بين الأسماء هنا وهناك وإحالة بعض الإشارات لمفاهيم أخرى، إلى أن التوراة تتحدث عن قصص واحداث كانت في إقليم عسير في جبال السراة وما إليها شرقا وغربا، وقد أورد الكثير من الأسماء والشواهد التي رآها تسير إلى النتيجة التي وصل إليها، ورأى بأن المصريين كانوا يقومون بتأمين خشب العرعر من عسير (وليس من أرز لبنان) كمادة للبناء ولتعمير السفن، وقد طبع الكتاب بداية باللغة الألمانية ثم ترجم للعديد من اللغات واحدث جدلا في الأوساط العلمية، وقد نشط الدكتور كمال بعده لفترة وألقى عددا من المحاضرات ثم خبا نشاطه.

ولكن ظهر بعده مريدون لطريقته من كل حدب، فقد كتب بعده زياد منى كتاب "جغرافيا التوراة مصر وبنو إسرائيل في عسير"، وقد واصل منى ما بدأه الصليبي وتحدث عن الشواهد والدلالات في الأسماء والنقوش وفي الاحاديث النبوية والقرآن التي رأى أنها تشير إلى أن اليهود عند نزول كتاب التوراة كانوا في عسير، ومما استشهد به "النقش (G11 155)  لعالم الآثار النمساوي إدوارد غلازر Eduard Glaser الذي عثر عليه في اليمن في مطلع القرن الحالي. وفي هذا النقش الطويل نسبياً نقرأ أن "عمصدق... كبري مصرن ومعن مصرن" أي أن "عم صدق (كان) حاكماً، (أو والياً) لمصر ومعن المصرية". هذا الاكتشاف الأثري المثير أثار في حينه عاصفة من النقاش الحاد بين اتجاهات عديدة كانت تسود علم التوراة. لكن ذلك النقاش الحيوي حقاً، حسم برحيل جيل لامع وقدير من علماء التوراة والمستشرقين"

   كما اتجه آخرون مثل فاضل الربيعي إلى إجراء تعديل في الموقع قليلا وأصدر عدة كتب تتحدث عن التوراة الحميرية اليمنية ثم أردف بكتاب آخر فجعل المسيحية أيضا دينا نجرانيا نشأ في نجران، فاليهودية والمسيحية كلها اديان يمنية صرفة خرجت للعالم عن طريق هجرة اليمنيين إلى الشمال، وكان للخميين دور في ذلك حسب روايته، ورأى ان "بيت لحم" في فلسطين الذي ارتبط بقصة المسيح هي جاءت في الأصل "بيت لخم" أي القبيلة التي منها الملوك المناذرة في الحيرة. وقد تبعهم في ذلك جماعة في البحرين أصدرت كتابا اسمه "نطق السراة"، والكتاب يسير إلى أن التوراة نزلت في السراة بما يوافق نظرية الصليبي، ثم كتب الدكتور أحمد سعيد قشاش كتاب "أبحاث في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة"، وذهب لنفس المذهب وقدم استشهادات  أخرى من الأسماء، وهنالك من كتب الحجاز أرض التوراة.

ومن الملاحظ على معظم هذه الكتب هو الإمعان في المقارنات اللفظية والتقريب والمقابلة اللغوية، بالإضافة للاستئناس بدلالات غير مباشرة لبعض النقوش (اليمنية فقط) والإشارات التاريخية عند الهمداني وسواه أو الأخذ بفهم محدد غير مباشر لبعض الاحاديث النبوية، ولكن لا يوجد أي إشارة ذات دلالة واضحة المعالم تدل على ذلك كالنقوش أو الوثائق القديمة المعاصرة، كما ان معظم هؤلاء يربطون تواريخ الهجرات إلى الشام وانتقال المفاهيم إلى هنالك إلى مرحلة متأخرة وغالبا تقرن بالأحداث الواردة في المصادر العربية عن التاريخ اليمني.

صدر بعد هذه الكتب كتاب للدكتور  عصام سخيني عام 2018م وهو كتاب "تهافت القصص التوراتي" واستعرض الدراسات التي انتهت إلى التشكيك في حقيقة القصص التوراتي ابتداء من بورفيراس (ت306)، مرورا بابن حزم (ت1064م)، وانتهاء بجوستا أولسترام (ت1992)،  كما استعرض الكتب العربية التي أيدت القصص التوراتي ومن ذلك استحضر كتب أصحاب النظرية العسيرية واليمنية، ووجه نقدا لهذه الكتب، ولكل من أيد القصص التوراتي في العموم، وقد كان مما استشهد به على اخطائها رسائل تل العمارنة التي ذكرت أورشليم في القر ن الرابع عشر قبل الميلاد، ورغم أن رسائل تل العمارنة التي أوردها الدكتور سخيني أوردت ضمن ما واردت الرسائل القادمة من جهات بلاد الشام في نفس المرحلة (ق14ق.م) وهي تشير إلى شكاوى الأهالي من مهاجمة جماعات من الرحل يسمون (العبيرو) للممالك الموجودة هنالك، إلا أنه اعتبر انه قد ثبت أنها لا تعني اليهود العبرانيين بل مجموعة من شذاذ الآفاق من أصول مختلفة، ولكنه لم يستكمل الحديث حول كيف ثبت ذلك.

   إن رسائل تل العمارنة بشرق الدلتا بمصر تبين أن العبرانيين تواجدوا في فلسطين وبلاد الشام (بلاد كنعان) منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد بل وتشير الرسائل الموجهة من الشام ومن جهات فلسطين وسوريا ان قوما اسمهم (العبيرو) قد كانوا يهاجمون الممالك المحيطة في تلك المرحلة ويوافق هذا ما ورد في التوراة حيث جاء ان إبراهيم تنقل وخاض حروبا مع الملوك الموجودين هنالك، كما ذكرت "أورشليم" في هذه الرسائل ست مرات على الأقل، بما يدل على أن أورشليم في فلسطين سابقة لما ذكر فاضل الربيعي الذي ربطهم باليمن وحدد هجرتهم منها إلى الشمال عام 200ق.م، وأشار إلى ان أورشليم هو اسم بناء في اليمن.

بعد ذلك صدر كتاب للدكتور عبدالله بن احمد الفيفي باسم "تاريخ بني إسرائيل وجزيرة العرب" وشن الفيفي هجوما لاذعا على كل من كتب حول هذا الموضوع واستعرض استدلالاتهم في هذا الموضوع وأبرز مدى هشاشتها حسب ما رآه. ثم أشار للدلالات على مصداقية الأخبار التوراتية إلى حد بعيد من خلال استعراض رسائل تل العمارنة التي ذكرناها ومدى مطابقتها للقصص التوراتي، ثم أورد المخطوط البردي الهيروغليفي الذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم  (الهابيروس : العبرانيين) ليسوا بمصريين، كانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. ويقول يبدو أن هذا اللقب يشير إلى العبرانيين الذين جاءت الإشارة إليهم في رسائل الكنعانيين المعثور عليها في (تل العمارنة) وقد وردت الإشارة لهذا التسخير في سفر "الخروج" هكذا: "فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل ..."

كما أورد الباحث ما نقله ويل ديورانت عن (جاستانج)، عضو بعثة (مارستن) التابعة لجامعة ليفربول أنها كشفت في مقابر أريحا الملكية أدلة تثبت أن موسى قد أنقذته من الموت الملكة حتشبسوت عام 1527ق.م، فتربى في بلاطها، ثم فر من مصر حين تولى الملك تحوت موسى الثالث عدو حتشبسوت.

ولم يرد لدى الباحث ما يدل على أكثر من ذلك حول التفاصيل من مصدر المعلومة.

   من خلال ما تقدم نجد أن هنالك من الأدلة مما يوازي مرحلة أحداث التوراة بالضبط في كل من رسائل تل العمارنة التي تثبت وجود أورشليم في بلاد كنعان في القرن 14 ق.م، ووجود العبرو (العبرانيين) في بلاد كنعان (الشام) ونشاطهم القتالي كبدو في نفس المرحلة، وتؤكد ما ورد في التوراة عن أخبار النبي إبراهيم عليه السلام المعاصر لهذه المرحلة.

كما أن المخطوط البردي الهيروغليفي الذي أورده الأستاذ الفيفي والذي يعود إلى عهد (تحوت موسى الثالث) والذي يشير إلى من يسميهم (الهابيروس : العبرانيين) وأنهم ليسوا بمصريين، وكانوا يعملون بالسخرة في (مصر) في أعمال البناء والفلاحة وقطف الكروم. يؤكد ما ورد في التوراة والقرآن حول استعباد المصريين لبني إسرائيل والتي كانت جزء منها قصة موسى عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم.

   ومن خلال ما تقدم فإن قصة وجود اليهود في بلاد كنعان بما يوازي مراحل نزول التوراة حسب زعم اليهود مطابق لما تحمله الوثائق والنصوص المعاصرة لهم ومن ثم فإن الحديث عن نزول التوراة أو ارتباط القصص التوراتي بمنطقة عسير أو اليمن أو السراة أو الجزيرة العربية في العموم لا صحة لها كما يظهر لنا، إلا ان ذلك لا ينفي وجود ثغرة ما تتعلق بتشابه الأسماء والتقاليد إلى درجة كبيرة بين مناطق في عسير ومناطق يهودية ككريات أربع والتي يقابلها قرية الأربوعة   أو قرية الربوعة، وغيرها وهنالك أسماء والفاظ يهودية متكررة كثيرا في منطقة عسير وبلاد السراة عامة بعيدا عن تلك التي أثارت سخرية الاستاذين الفيفي وسخيني، ناهيك عن تلك الذوائب التي كان العسيريون يطلقونها على جانبي اكتافهم على نفس نمط الزنانير اليهودية.

لقد درج العرب منذ بدء التدوين على ترسيخ مفهوم مركزية جنوب الجزيرة العربية في التاريخ العربي، ولعل هذا يعود لأثر سكان الجزيرة العربية في التاريخ العربي منذ فجر الإسلام، ولربما تأثر بعض الدارسين الغربيين بهذا المفهوم المتوارث فخرجت الكثير من النظريات التي لا زالت تحمل في خلفيتها فكرة الهجرة من الجنوب للشمال، وتفترض أن الهجرة لا يكون لها من سبب إلا البحث عن الرزق عندما يضيق في الموقع، بينما الهجرات لها أسباب كثيرة لعل من أهمها الحروب خاصة عندما تكون الامة مهددة من أمم أخرى تفوقها عددا وعدة.

إن التشابه بين اليهود واهل السراة في نمط الأسماء وفي الذوائب الملوية والمنسدلة من جانبي الرأس لا يخص الجانبين فقط فقد كان البابليين مثلا يطيلون شعورهم ويسدلونها على الجانبين ويدهنون أجسامهم بالسمسم على نمط أهل تهامة. والقواسم بين الجانبين في اللغة كثيرة جدا وسبق ان تطرقت لبعضها وهنالك المزيد.

ومن هنا نقول بأن صلة اليهود بالعرب سكان الجزيرة العربية ومنهم أهل السراة هي صلة جوار قديم، وصلة قربى قديمة، عندما كانوا جميعا في بلاد الشام وما بين النهرين قبل هجرة العرب وبعض العبرانيين للجنوب وبقاء بعضهم هنالك.

وللحديث تشعبات كثيرة نكتفي منها بما ذكرنا.



 

الأحد، 9 يناير 2022

القبيلة أم الوطن

 


   في برنامج المديفر كان الضيف د. سعد الصويان يتحدث عن حياته وآرائه حول عدد من القضايا المجتمعية بصفته أستاذا في الأنثروبولوجيا.

   وكان الرجل صريحا جريئا في الطرح حول بعض القضايا ذات الحساسية العالية في المجتمع، ومن ذلك طرحه لفكرة دمج المجتمع من خلال عملية مدروسة تقوم بها الحكومة لفرض التزاوج بين فئات المجتمع مثل الحضر والبدو والصلب و القبيليين والخضيريين والصناع والسنة والشيعة، وكذلك الدمج بين المنتمين للمناطق المختلفة.

وقد ضرب الأستاذ سعد على وتر ذو شجون ، فقد طرقت هذا الباب عبر العديد من المنتديات منذ فترات طويلة، ودخلت جدالا حوله، فقد كان لي وجهة نظر تشكلت خلال تنقلي منذ التسعينات الهجرية ما بين بعض مدن المملكة في الوسط والجنوب ومعاينة التشابه في التمييز الطبقي في الجانبين، والوقوف على هذا التمييز في بعض مدن الشمال أيضاً، فالطبقات نفسها في هذه المناطق وأسبابها هي ذاتها، ولكن المسميات تختلف، وقد لاحظت أنه خلال هذه المرحلة تم ربط التمييز الطبقي بفولتات الكهرباء في هذه المناطق، فأصبح هنالك وحدة مسمى، بحيث تم تمييز الطبقة السائدة باسم (خط 220)، والطبقات الأخرى بمسمى (خط 110)، مما يدل على توافق يتصل بالخلفيات، وبالفعل وجدت أن الأسباب نفسها في كل الجهات، والحق عندما كتبت وجادلت حول ذلك أنني لم أكن بشجاعة الدكتور، فقد كنت اكتب بمعرف مستعار، لذا لم تكن الشتائم والاتهامات مباشرة.

   ومهما اختلفنا مع الصويان في بعض ما طرحه خلال كامل اللقاء أو أيدناه فيجب أن نحيي صراحة وجرأة الدكتور سعد فالمثقف الحقيقي هو ذلك الذي يكتب غير معني باتجاه التيار، فهو يبحث عن الجرح ليصف له العلاج، ولا يبحث عن موقع الطبطبة من الكتف، فلا يمكننا اعتبار كاتب يمعن في المصطلحات، والاستعراض الأكاديمي، ويحرص على مداراة الرأي العام مفكراً.

   وقد لاقى هذا الطرح فيما يخص الجزئية التي اوردناها ردة فعل عنيفة، واتهمه الكثير بمحاولة ضرب بنية المجتمع، واتجه البعض لربط حديث الصويان بمحاولة الوصول إلى الانسلاخ من الأسرة باعتبار الأسرة اللبنة المكونة للقبيلة، ونزل هاشتاق غاضب باسم #القبيلة_خط_أحمر، ومن العجيب استشهاد البعض بالحديث والسنة لدحض مطالب الصويان.

والحق أن ما قاله الصويان مما أوردنا وان كان هنالك من رأَى فيه حدة لفظية إلا أن فيه حقيقة لا بد أن نتقبلها، خاصةً عندما وصف هذه الحواجز المفتعلة بالوهم.

   جبل الإنسان على الميل لمركزة الذات وتطريف الآخرين، لذا تجد هنالك حرص من الكثير على زيادة حدية الجدار الفاصل بينهم وبين الآخر عندما يجدون أن هذا الفاصل يجعلهم في مركز أفضل من البقية، بل ربما وجدت من يحاول أن يضيق أو يوسع المساحة داخل هذا الفاصل لتقف عند حدوده هو، ولكن معالجة الأمور الوطنية والتي تمسنا عامة تلزمنا بالخروج من هذه الدائرة والنظر من فضاء آخر، فمن لا ينظر إلى الأمور إلا من خلال ذاته وموقعه من القضية لا يرى إلا جانبا واحدا، وبالتالي فإن نظرته ستكون متحيزة، وستقصيه عن الوقوف على حقيقة الأمر، والأبعاد والمآلات.

   لا شك أن هنالك شعور بالنقمة لدى ذلك الجزء الذي يمثل نسبة لا يستهان بها من المجتمع عندما يرى أن مجتمعه ينبذه، بينما هو لا يقل عن الآخرين بشيء، فتخيل أنك ذلك الدكتور أو المهندس أو الفنان التشكيلي أو الكاتب أو رجل العلم الشرعي أو غيره والذي ينتمي إلى أسرة ميسورة متنفذة، ثم لا يستطيع ان يتزوج ابنة جاره التي يرغب الزواج منها، لأن مجتمعه صنفه في طبقة اجتماعية أقل، أو لأنه لا يحمل انتماءً متوارث لقبيلة معينة، أو لكونه ينتمي لقبيلة منبوذة، هل ستحمل نقمة على المجتمع أم لا، لا شك أنك ستحمل بصورة أو أخرى (أنا لا أقول نقمة على الوطن)، ولا شك أن هذه النقمة تخلخل المجتمع ومن ثم الوطن وتضعفه، فليس هنالك أسوأ من أن تجد أنك مصنف بالولادة في موقع أقل من الآخرين في وطنك، وأنه لا أمل لك في الخروج من هذا التصنيف، ثم لا تجد أنهم يفضلونك بشيء، فأنت مثلهم في الانسانية والقدرة والهيئة، بينما ترى أنك لست مصنفاً كذلك في كافة المجتمعات الأخرى خارج وطنك، بل إنها لا تحمل هذا النمط من التصنيفات.

   فإذا أردنا ان ننشئ مجتمعا مترابطا ذو شعور قومي موحد لوطنه، يقف خلف قيادته كالبنيان المرصوص للحفاظ على كل ذرة من تراب الوطن، ويحرص على العمل الدؤوب من أجل رفعته، فعلينا ان نوجه كل ثقلنا لضرب حدِّية الحدود الفاصلة فيما بين المجتمع، وفضح هلاميتها، سواء تلك الحدود الجغرافية أو العرقية أو الطبقية أو القبائلية، فهذه الحدود قد نمت وازدادت حدة في أعماقنا حتى أصبحت تمثل حاجزا بين أجزاء المجتمع الواحد، بينما هي ليست أكثر من حدود وهمية بالفعل كما سيأتي معنا.

فعلى المستوى المناطقي "الجغرافي": فإن الجزيرة العربية تكاد تكون وحدة واحدة ارتبط استقرارها ببعضها البعض، فعندما ندرس تقاسيم الجزيرة العربية سواء التقسيمات القديمة التي وضعها الكلاسيكيون أو تقسيم الجغرافيين العرب فإننا نجدها مسميات جغرافية لا أكثر، تعريفاتها مختلفة بين مرحلة وأخرى وبين مصدر وآخر، وليس هنالك حدود واضحة المعالم بينها، كما أنه لم يرتبط الاختلاف في الأسماء التي نعطيها اعتبارا في الوقت الحالي بمفاهيم الهوية القومية، فمناطق الجزيرة التي انضوت في هذا الوطن لم تمثل أيها تاريخيا عصبية قومية بذاتها، إذ لم تتجاوز هذه الأسماء مفهوم الجغرافيا المرتبطة بالتضاريس، كما أن تعريف هذه المناطق وحدودها اختلف بين مرحلة وأخرى، بينما كان السكان متنوعين عرقيا في كل من هذه المناطق على حدة، وكان الترحال والانتجاع بين هذه المناطق قائم عبر التاريخ، فسكان كل منطقة كان لهم أو لأبناء عمومتهم الأقربون حضور في المساحات الأخرى من الجزيرة العربية ، ورغم حتمية وجود الخصوصية المرتبطة بالجغرافيا، إلا أنها  خصوصية نسبية تتدرج حسب المسافة والمرحلة، فلم يكن هنالك فروقات عرقية مرتبطة بالتقسيم الجغرافي الأساسي بين مناطق الجزيرة العربية ـ وهو ما صادقت عليه نتائج الدي ان أي في العصر الحديث ـ لذا كانت مناطق هذه الجزيرة مترابطة التاريخ والأحداث منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، بدءاً من تقاطر وفود القبائل العربية من كل أنحاء الجزيرة العربية للدخول في الاسلام خلال ثلاثة أعوام (ما بين العام التاسع والحادي عشر للهجرة)، ثم ارتداد كل القبائل في كافة أنحاء الجزيرة العربية بعد موت النبي، ثم عودتها بعد حروب  الردة، ثم انطلاقها من موقع آخر حروب الردة لفتح الأمصار خارج الجزيرة العربية.

   وقد ظلت هذه الجزيرة تعيش حالة سياسية واجتماعية متشابهة ومتصلة ببعضها من خلال تنقل القبائل المتواصل بين مناطقها، والتي ظلت همزة وصل بين أجزائها عبر التاريخ، وفيما قبل الدولة السعودية الأولى لم يكن مفهوم الهوية الوطنية يتجاوز حدود القبيلة الأدنى أو البلدة، وربما امتد ليحتوي عدد من القرى أو البلدات المتجاورة التي يجمعها التجاور ووحدة المسمى،  ومن ثم فعندما قامت الدولة السعودية الأولى في وسط الجزيرة العربية، كأول كيان سياسي مستقل قام منذ ذلك التاريخ، فقد انضوت كامل الجزيرة العربية في هذا الكيان، وأصبحت جميعها منتمية لهذا الكيان خلال فترة قصيرة، ولم يفرق هذه الدولة إلى كيانات (سناجق) إلا ثقل الدولة العثمانية، والتي كانت تمثل الدولة العظمى في حينه، فحرصت بعد اسقاط الدرعية على التفتيت ثم منع عودة الوحدة السعودية لكامل أجزاء الوطن مرة أخرى،  وبالتالي فعندما ثار الإمام تركي بن عبدالله فقد استعاد نجد المحددة بإطار الدولة العثمانية فقط، واقام الدولة السعودية الثانية ولكن في حدود الإطار المحلي، فلم يمد نفوذه على كامل مناطق الدولة السعودية الأولى، رغم أن العسيريين مثلاً والذين ثاروا وامتدوا في حدود الإطار والمسمى العثماني أيضاً، كانوا يرسلون الهدايا والرسائل إلى أئمة الدولة السعودية عرفانا بالولاء، ولكن ما أن فقدت الدولة العثمانية قوتها بعد الحرب العالمية الأولى حتى عادت الجزيرة العربية للتوحد بمعظم مساحتها تحت الكيان السعودي مرة أخرى على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وهو ما يدل على الترابط القوي بين أجزاء الجزيرة العربية التي انتظمت فورا تحت هذه الدولة.

   أما من حيث الطبقات الاجتماعية: فإن هذه الفروقات التي وضعناها بيننا البين جاءت في معظمها من خلال التصنيف المهني، بحيث أن كل من يعمل في غير المهن الأساسية القديمة وهي الرعي والزراعة ـ وبدرجة أقل التجارة ـ صُنِّفَ من فئة أقل، أو لعل جزء منها جاء من خلال الحروب، كناتج لتلك المعارك التي كانت تقوم بين القبائل العربية والتي تؤدي لسقوط العديد من الأسرى من الأطفال من أبناء القبائل العربية، والذين يفقدون قيمتهم القبلية السابقة ومن ثم صلتهم بها، أو من خلال اللجوء القسري  جراء العداوات والأحداث كالقتل وخلافه إلى المناطق الأخرى، مما يفقد الشخص صلته بقومه الذين يعرفون قدره، فيضطر للتداخل مع طبقات محسوبة أقل بدافع الارتزاق أو التزاوج فيحسب منها، وهكذا، ونسبة قليلة جدا لأسباب أخرى.

  والإشكال الأكبر في نظام الطبُّقية الاجتماعية في الجزيرة العربية وخاصة في بلادنا أنها أزلية، لا ينقضها تغير المهنة ولا تغير الوضع الاقتصادي، ولا تقادم وتتابع الأجيال، كما أن هذا النظام لم يقم بشكل تام على الاعتبارات العرقية، بينما نجد أن التمايز الاجتماعي في باقي المجتمعات العربية (وغير العربية) لا يحمل هذا الفاصل الحدي ولا صفة الأزلية، فالوضع المالي يكاد يكون المؤثر الأبرز في هذا الخصوص، لذا فقد ينتقل شخص من طبقة اجتماعية إلى أخرى، عندما يتمكن من العمل وتغيير وضعه، كما أن الأمر لا يتعلق بالزواج.

 فلا أمرً من أن تجد أنك منبوذ بشكل أزلي، لأن جدك الذي لا تعرفه ولا تعرف في أي عصر عاش قد عمل في مهنة شريفة راقية ليكسب عيشه، ولكن المجتمع لا يحبذها فنبذه، لذا فأنت وأبناءه وأقاربك ستظلون منبوذين مدى الدهر، بينما لا تجد فارقا بينك وبين من ينبذونك لا خَلْقيا ولا خُلُقيا.

   يصر البعض على أن التفريق بين الناس على أساس طبقي له أساس شرعي،  وهذا غير صحيح، فقد زوج النبي مولاه زيد بن ثابت ابنة عمته ثم تزوجها بعده، ويحتج البعض بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس"، ويحاولون اسقاط مقاصد هذا الحديث على مفاهيم الطبقات الاجتماعية الحالية، وهذا ينافي العقل والحقيقة، فالمقصود بهذا الحديث العظيم المعنى ـ سواء صح أو لم يصح ـ هو اختيار الصفات التي تريدها في أبنائك عند اختيار زوجتك، فإذا أردت مثلاً أبناء طوال القامة أو قصاراً، أو أذكياء أو ذوي بشرة سمراء أو بيضاء، أو غير ذلك من الصفات، فابحث عن هذه الصفات فيمن تتزوج منهم، وقوله العرق دساس يتماشى مع ما وصل اليه العلم الحديث في اكتشاف الـ"دي ان أي"، فالعرق يدس الصفات الموجودة في زوجتك وأسرتها وأسلافهم في الجينات فتخرج في أبنائك، ولا علاقة لذلك بالمهنة، ولا بالطبقة الاجتماعية.

   ومن المفارقات الطريفة أننا أصبحنا نبحث عن صفات طبقات المهنيين والحرفيين (الصناع) في أبنائنا، لنراهم مهندسين وفنيين حاذقين في مهنهم وأعمالهم، وليحصلوا على وظائف في وقت أسرع، فالمعاهد والكليات التقنية وكليات الهندسة تكتظ بأبناء القبائل والقبيليين، بينما ننتقص أولئك الذين امتهن آباؤهم وأجدادهم نفس المهن. 

   وقد شاء الله أن يكشف عوراتنا بشكل جلي، ويرينا كم نحن نرتكب من الأخطاء عندما نصر على أن نشابه من سبقونا، ونستمد نفس قيمهم الموروثة، دون محاولة معرفة مدى ملائمة هذا الموروث لعصرنا وحياتنا، وحساب المكاسب والخسائر، ومدى تواؤمه مع الشريعة الإسلامية.

   لقد كان هنالك اعتقاد لدى المتمسكين بالفروقات الطبقية يقول بصلتها بالفروقات العرقية، فتحال حتى أخطاء الأشخاص في بعض الحالات إلى فئتهم الطبقية، مما يعني انتماء الطبقات الأقل اعتبارا في المجتمع لأعراق وضيعة.

   ولكن بعد ظهور نتائج اختبارات الدي ان أي فقد ثبت خطأ هذه الفكرة وهشاشة المفاهيم التي بنيت عليها هذه الطبقية، فلم ترتبط الطبقات الاجتماعية بالسلالات، ولم يثبت وجود طبقيَّة جينية، إذ ظهرت الفروقات العرقية داخل كل طبقة من الطبقات، بينما لم يتضح وجود تمايز جيني بين الطبقات بعضها البعض.

   فمثلا توزعت نتائج القبائل والأسر القبيلية (الرعاة والمزارعين) على التحورات الأساسية كل من J1  و E و J2 و T و R بنسب مختلفة، ولكن ظهر أن J1 هو الأكثر حضورا، ويليه البقية بنسب متقاربة، حسب ما اعلن منها.

وعلى الجانب الآخر توزعت نتائج الفئات الأخرى، كالصناع ومن في طبقتهم بنفس النسب تقريباً، حسب ما اعلن منها، والطريف أن كل تحور في طبقة القبيليين ظهر لهم من الفئة المصنفة كغير قبليين أبناء عمومة حقيقيين ـ وليسوا افتراضيين ـ ، فهم أقرب لهم من الكثير ممن يشاركونهم النظرة الدونية لأبناء عمومتهم، وهو ما يدل على أن هذه الفئات التي صنفت في طبقة معينة هي من نفس الطينة والجينات التي هم منها، وأن الامر لم يتجاوز ظروف الهجرة واللجوء، أو الوقوع في الأَسر، أو امتهان أجدادهم مهن جديدة أكثر حرفية وتطورا، كالحياكة والنجارة والحدادة والصياغة والوراقة مما لا يستطيع اتقانها إلا قلة من الناس، وهو ما جعلهم أقلية تمكن الأكثرية من نبذهم وتصنيفهم بطريقة مجحفة.

   وما قلناه عن الطبقات الاجتماعية المصنفة كطبقات أقل ينطبق أيضاً على القبائل المنبوذة ممن تواطأت بقية القبائل على نبذهم، وعدم التزاوج معهم، فقد خرجت نتائج هذه القبائل، وكانوا بنفس الدرجة من التنوع السلالي التي وجدناها عند القبائل الأخرى المعتبرة.

 ومن ثم يجب أن نعي أن الإصرار على نبذ هذه الطبقات والقبائل هو نبذ لذواتنا.

فإذا كان من يحملون جيناتنا ونفس سلالاتنا عرقا أدنى، فماذا نكون نحن.

إن محاولة احداث الاختراق الفردي لهذه الحواجز غير مجدية، ولكن يمكن احداث الاختراق من خلال عملية مدروسة ومنظمة تبدأ من الأعلى، حتى يمكن تكوين الأنموذج الذي يحتذى، ويبدأ من ثم كسر الحاجز المعنوي، أي أنه يجب أن يكون عملاً مدعوما من الحكومة كما رأى الصويان،  ولعلنا بذلك نكفر عن ذنب الأجداد. 

والله من وراء القصد



 


الأربعاء، 17 نوفمبر 2021

"عسيري" أم "العسيري"

عسيري أم العسيري ال التعريف استخدمت في اللغة العربية لتعريف الأسماء النكرة، وللوصل لتمييز الصفات، وهي تأتي مع ياء النسبة عند العرب فيقال علي القرشي ومحمد الهاشمي وسعيد الثقفي وهكذا، ولكنها لا تستخدم مع الأسماء غير المختومة بالياء حتى ولو كانت نسبية فيستخدم بدلا منها (ابن) فيقال علي بن هاشم، وقد تستخدم (آل) فيقال مثلاً محمد آل حاتم، وهكذا، وهذا هو الأصح على العموم، إلا أن اللهجات تأخذ طابعا مختلفا في بعض الأحيان فمثلا في الشام لا يستخدمون ال التعريف مع ياء النسبة في بعض الحالات، لذا نجد أسماء أعلام ومثقفين كـ"نزار قباني" و"غسان كنفاني" و"حسام عيتاني" و"عصام سخيني" وهكذا، ومثله نجد في بعض الحالات في مناطق تهامة أو غيرها، والأمر لا يحمل فرقا من حيث القيمة المعنوية أو الأصالة لمن حمل هذا الاسم أو ذاك. ومن الملاحظ أن قبيلة عسير بالذات في المملكة العربية السعودية يحمل جزء من أبنائها اسم القبيلة في بطاقة الأحوال بدون أل التعريف فيقال "منصور عسيري" أو "سعد عسيري" وهنالك من يحمل أل التعريف في اسمه فيقال منصور العسيري أو سعد العسيري. والغريب ان هنالك أسر تتنوع في حمل الاسم، ومن ذلك أسرتي، فوالدي اسمه "احمد العسيري" هكذا في بطاقة احواله وفي حفيظة نفوسه الصادرة عام 1384هـ، ومعظم اخوتي يحملون أل التعريف في أسمائهم، بينما انا وأحد أخوتي وأخواتي لا نحمل ال التعريف، وكنت قد تقدمت إلى الأحوال المدنية عدة مرات لمساواة الاسم بوالدي، لدواعي توحيد المسمى وللنواحي القانونية، إلا ان الإجراءات كانت معقدة، وفي كل مرة يكون هنالك عائق ما. والحق أني لا أجد فرقا بين أن يقال لي العسيري أو عسيري، فكلاهما سيان، إلا أنني أفضل استعمال اسم "العسيري" في تدوين اسمي على كل ما اكتبه، وكل ما في الأمر أنني أضع الاسم الذي أتوقع أن يبقى لأنني بصدد التصحيح، وسأظل كذلك إلى أن يصحح الاسم. ولكني أشعر أحيانا بأن من يقرأ اسمي في البطاقة يعتقد أن الموضوع يحمل هما بالنسبة لي، بل إني وجدت أن من يحمل لي الحنق يتعمد استعمال اسم "عسيري" بدلا من "العسيري" ومن يحمل لي الود يستعمل اسم العسيري ظناً من الطرفين أن الأمر ذا بال، وعلى العموم لكلٍ أن يدعوني بالإسم الذي يرغب، فلا مشكلة لدي، وأذكر أثناء العمل ان أحد المراجعين عندما ذكرت له اسمي بدون ال التعريف أخذ يخبرني عن خطأ قول اسم القبيلة بلا أل التعريف، فقلت له من باب الدعابة بأن التعريف للاسم النكرة أما المعروف فلا يعرف. وقد ثار التساؤل بين العسيريين عن أسباب ذلك، فكانت التفسيرات مختلفة، فهنالك من يدعي بأن هذا النمط موجود في تهامة، والجزء الأكبر من قبيلة عسير خارج المنطقة هم من تهامة عسير، فطغى نمطهم على الجميع، وأما آخر فقد فسر الأمر بأنه راجع لكون عسير اسم منطقة، فظن الجميع أنهم يحملونه نسبة إلى المنطقة، ومن ثم لم يتم التعامل مع الاسم كاسم قبلي في المناطق الأخرى، وبالتالي خرجت حفائظ النفوس للعسكر الذي يحيلون اسمهم الى عسير بدون أل التعريف. وقد وجدت ان هنالك من أصبح يلمز قبيلة عسير بذلك، مع أنه أمر لا أهمية له بالنسبة لكل من عرفتهم من العسيريين، هذا رغم تساؤلهم عن السبب في ذلك، خاصة وأن أسماءهم القبلية المحلية التي يحملها بعضهم، لا بد أن تحمل أل التعريف ولا تنطق ولا تتداول بينهم ولا تكتب إلا كذلك، مثل المغيدي، والعلكمي، والمالكي، والرفيدي والالمعي وما إليها. بينما عندما يتعلق الأمر بالقبيلة الأم فستجد جزء كبير بدون أل التعريف!. للتعمق في أبعاد وأسباب هذه المسألة، وبداياتها سنعود إلى بدايات العهد السعودي الحديث، في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، ونتجول بين الأسماء في تلك المرحلة، لنجد بأن أل التعريف لم تكن حاضرة في الأسماء المدونة بنفس الدرجة التي شاعت في مرحلة لاحقة، فكل القبائل والأسر الأخرى كانت تدون بدون ال التعريف، فقد وجدت بعض القوائم الدالة على ذلك، ومنها قوائم شهداء الجيش السعودي في حرب 1948هـ مثلاً، فقد كانت الأسماء القبلية في بيانات الأسماء التي دونت في نفس المرحلة، معظمها بدون ال التعريف مثل: "غانم قحطاني" و"محمد شهري" و"حامد شمراني" و"علي قرني" و"سعد عسيري" وهكذا !. صور لقوائم أسماء شهداء حرب 1948م من الجيش السعودي رحمهم الله.
وحتى أسماء الأسر في المملكة العربية السعودية لم تكن تنطق بأل التعريف، فيما عدا من تحمل ياء النسبة أو الأسماء الوصفية الدالة على صفة كالطويل او العريض أو الخياط وهكذا. فقد كانت الأسماء الأسرية كلها في المملكة تنطق بنفس الطريقة، فيقال ابن سعيد وابن سويد وابن سويلم وأبن حسين وهكذا، ويكفي ان ننظر إلى كتاب ابن غنام أو ابن بشر لنرى ان الأسماء الأسرية كانت تنطق بدون ال التعريف، وهو النمط العربي القديم للأسماء، الى ان أضيف لها ال التعريف في حفائظ النفوس، فأصبحت تبدو وكأنها وجدت كذلك، وبرفقه أسماء طلبة العلم على يد المشايخ عام 1355هـ في مدينة الرياض، ونلاحظ أن الأسماء على وجه العموم تنطق بدون ال التعريف فيما عدا الحالات الخاصة كالتي حددناها.
لذا فمن الواضح أنه تم تنظيم طريقة تدوين الأسماء، واضافة أل التعريف بشكل جيد إلى أسماء القبائل والأسر مع بداية انشاء إدارة الجوازات والجنسية وإصدار حفائظ النفوس، ومن ثم فإن كلاً أضيف لاسمه أل التعريف، ما عدا جزء من العسيريين لم يضف لأسمائهم ال التعريف، فظلت أسماؤهم القبلية في هوياتهم مرتبكة، والأسباب ربما تتعلق بتصنيف اهالي بعض المناطق الأخرى أو الموظفين الانتساب لـ "عسير" كانتساب إلى منطقة لا إلى قبيلة. ومن ثم نقول للعسيريين وغيرهم ممن يتساءلون عن هذا الاختلاف: "كلنا في الهوى سوى"، وتظل الأسماء دالة على أشخاصنا وأسرنا وقبائلنا، ولا قيمة لها ولا لطريقة نطقها إلا بما كان للأشخاص ذاتهم من قيمة.

الاثنين، 18 أكتوبر 2021

مِمَّنْ قريش

كثر الحديث واللغط حول حقيقة التحور الخاص بقريش رغم أن الأمر في غاية الوضوح، ولكن ربما غُمَّ على البعض فلم يتمكنوا من رؤية الحقيقة، هذا إذا جنبنا الهوى الذي نعي بأنه حاضر في الكثير من الحالات. وقبل أن نبدأ نقول بأن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، ولو أن الله اصطفاه من أي قبيلة في أقصى الأرض سيظل هو سيد البشر وخيرهم، وسيظل لقبيلته حق أن تباهي الدنيا بأن الله اصطفى نبيه منهم، ولا يوجد بعد الفخر برسول الله فخر، وحق لقريش أن تباهي برسول الله، ولكن لا شك أن هذا الاصطفاء والتفضيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرتبط بمضريته ولا نزاريته ولا معديته، بل هو اصطفاء لذاته، فلا ثابت لدينا إلا ان محمد صلى الله عليه وسلم من قريش، وقد ورد في صحيح مسلم أنه من كنانة وهو أمر نصدقه بدرجة عالية للثقة في المصدر، ولكن لم يتفق عليه في الصحيحين. لذا سنحاول هنا أن نستقرئ أخبار قريش وما ورد عنها سواء في الحديث الشريف أو الأثر أو في الروايات المختلفة فيما قبل تدوين كتب الأنساب ونحاول الوصول إلى دلالاتها، ومدى توافقها مع نتيجة قريش واضحة المعالم التي رأيناها جميعا، بانقسام الهاشميين تحت التحور L859 وتوزعهم تحته بما يتوافق مع المدون تاريخيا، سواء الحسنيين أو الحسينيين رغم افتراقهم منذ القرن الهجري الأول بين العراق والمدينة المنورة واليمن والشام وبلاد فارس والهند، ثم خروج نتائج أبناء عمومتهم الجعفريين (الجعافرة) في المدينة المنورة، أبناء جعفر بن أبي طالب ـ أمراء المدينة حتى عام 266هـ ـ، والذين عاصرهم بها، ونقل عن عدد منهم: أبو علي الهجري في القرن الثالث، وقد جاءت نتائجهم تحت التحور FGC67360 المتفرع من التحور L859 وخارج التحور الخاص ببني علي بن أبي طالب وهو FGC10500، ثم خروج قريش الأعاضيد وقريش المغمس في مكة والطائف تحت نفس التحور القرشي L859، وخارج التحور العلوي الطالبي، ومن ثم فإن التحورات جاءت مطابقة للرصد التاريخي الذي تم لهذه الأسرة، وجاء مطابقا لتحورات قريش المنفصلين عنهم، والذين لا زالوا يحملون مسمى القرشي في بلدتهم التاريخية. إن الإشكال الحاصل في فهم سبب هذا الخروج عن سياق المفهوم المتوارث حول موقع قبيلة قريش المفترض حسب هيكل النسب الذي وضعه ابن الكلبي في كتابه جمهرة النسب يرجع في أساسه إلى عدم مراجعة حقيقة الهيكل النسبي القديم، وعدم الاهتمام بتقييم هذه المشجرة، والانسياق العاطفي خلف المفاهيم التي ترسخت لدينا حول هذه التقسيمات القديمة ومحاولة الوقوف عندها بالضبط، والرغبة في اثبات صحتها على أي حال، واثبات مواقعنا التي نقررها منها. والحقيقة أن الأنساب القديمة هي مدار نقاش علمي منذ كتابتها، إذ نجد هنالك من ألمحوا إلى وجود ثغرات بها مثل أبي عمرو بن العلاء وابن سلام، وغيرهم، كما أنها أصبحت محل مراجعة منذ قرنين بين الباحثين في علم التاريخ والآثار واللغويين والباحثين في السلالات البشرية والأنثروبولوجيا، ومن ثم فقد خرجت الكثير من الدراسات النقدية التي فندت المفاهيم القديمة للأنساب من خلال فك رموز اللغات والأبجديات القديمة في المنطقة، وبالتالي قراءة العديد من النقوش التي أفرزت مفاهيم جديدة حول الهجرات والأنساب والصلات، إلى ان جاء علم السلالات الجينية فأكد وجود الخلل في الأنساب القديمة، وأثبت أن هنالك ثغرات واضحة لا يشوش عليها إلا عواطفنا. لقد كتب الكلبي كتابه في نهاية القرن الثاني للهجرة، فكان أساسا لعلم الأنساب، بنى عليه كل من بعده في انتاج كتب أنساب جديدة لم تكن إلا عيَّال على كتابه. وقد اتهم الكلبي بالكذب والتدليس، ولعله هو بذاته قد أقر بوجود نوع من الألاعيب والصفقات في كتابة الأنساب عندما أشار إلى أن بعضهم طلب منه إخراج دعبل الخزاعي من نسب الأزد مقابل عطاء له، فاعترض على طلبهم بقوله: "وهل تتخلى الأزد عن دعبل ؟"، بمعنى أنهم لن ينجحون في ذلك لأن الأزد لن تتخلى عن دعبل، وسيكذِّبون من أخرجه، ومن ثم فإن الكلبي بذلك يقر بوجود هذا النوع من التعاقدات خلف الأستار، وعليه فإن ما أورده الكلبي رغم أهميته، وكونه يحمل درجة من المصداقية في بعض النواحي إلا أنه كان هنالك الكثير من غير ذلك. هنالك عوامل كثيرة لا بد أنه كان لها تأثير ما على تدوين هيكل الأنساب القديمة، منها اعتماد المصادر الشفهية التي لا نتوقع أن تحفظ أكثر من 7 أجيال من الآباء، ومنها اعتماد المصادر التوراتية التي شابها الكثير من التحريف، ومنها العاطفة وحب التفاخر وأثرها، ومنها التدخلات والمصالح، ولعل من أهم ما يمكن ان نتوقع تدخله في الانساب هو السلطة، التي لا شك أن أنساب القبائل وصلاتها ببعض تعني لها الكثير في تلك المرحلة، فقد وجدنا في الأثر ما يدل على استغلالها للمماحكات القبلية بين قبائل العرب لتكريس سلطتها. وهنا سنتحدث عن قبيلة قريش المضرية (حسب كتب الانساب)، وما دلالات مضريتها، وماذا عنت مضريتها للسلطة ولمضر، وما هو المفهوم القديم عنها. عندما نرجع لبدايات مفهوم نسب قريش وصلتها بالقبائل الأخرى نجد أن هنالك اختلاف في الروايات والخطاب الموجه لقريش وتعريف قريش لذاتها، وتدرج في المفهوم بين مرحلة وأخرى، بينما نجد أن الكثير يستشهدون بهذه الروايات والأحاديث حسب ما يرون من الدلالة الظاهرية لها كنصوص جامدة دون تعمق، ، فيعتبرونها دالة على المضرية، بينما قد لا تكون كذلك، أو قد لا تصح، وسنحاول هنا عرض بعض هذه النصوص واستقراء دلالاتها، ومنها التالي: أولاً: "كاذب ربيعة خير من صادق مضر" 1) كتب مسيلمة بن حبيب الحنفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب، .. إلى آخر الحديث" 2) وحتى بعد أن بدأ مسيلمة يقرأ ما يدعيه من الوحي فقد ظل على الإشارة لقريش كند لقبيلته فكان يقول: " ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، ..........، لنا نصف الارض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "! 3) بينما روى الطبري (وغيره) عبارة جاءت على لسان أحد ربيعة، وبلغت شهرتها الآفاق، قال: "كتب إلي السري قال حدثنا شعيب عن سيف عن خليد بن ذفرة النمري عن عمير بن طلحة النمري عن أبيه أنه جاء اليمامة فقال أين مسيلمة؟ قالوا مه رسول الله؟ فقال لا حتى أراه، فلما جاءه قال أنت مسيلمة، قال نعم، قال من يأتيك؟، قال رحمن، قال أفي نور أو في ظلمة؟، فقال في ظلمة، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" • نلاحظ في الروايتين الأولى والثانية أن مسيلمة كرر الإشارة لقريش كَنِدٍّ لقبيلته، وكأن مضر لم تكن حاضرة لديه، وهو الذي ادعى النبوة في كل ربيعة، فانتقل بدعوته من الهدار إلى الخضرمة. إلا أننا نجد في الرواية الثالثة أن طلحة كان ينظر لمضر كندّ لربيعة، ونلاحظ أن عبارته ـ التي لاقت شهرة كبيرة ـ بقدر ما هي تحمل من القصدية في تكريس مفهوم مضرية قريش فهي أيضا تكرس مفهوما للتنافس بين ربيعة ومضر الذي يرقى لرفض الربيعيين نبوة محمد حتى لو كان صادقا ما دام مضريا. ولعل هذه العبارة تمثل أشهر وأصرح العبارات الدالة على سيادة مفهوم مضرية قريش منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هل تصح هذه الرواية ؟. عندما نعود إلى مصدر الرواية الأخيرة نجد أن مدارها على سيف بن عمر التميمي (توفي عام 185هـ) في كتاب "الردة والفتوح"، وهو زنديق ساقط الرواية عند كل رجال الحديث. يقول عنه محمود شاكر: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط، هذا مختصر ما قيل عنه، والكلام حول ذلك كثير. ومن خلال توقيت ظهور الرواية خلال النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، فالواضح أنها جاءت في مرحلة متأخرة، شاع قبلها وخلالها مضرية قريش كما سيأتي معنا. ثانياً: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ 1) روى البخاري في صحيحه، قال: "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ". • حضر بنو عبدالقيس لرسول الله (ص) في العام التاسع للهجرة وكان النبي في المدينة المنورة، وقولهم بيننا وبينك تدل على أن كفار مضر كانوا بين المدينة وبلادهم، وقد جاء وفد عبدالقيس من نجران مرة ومن البحرين أخرى، وقولهم "بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر" يدل على امتداد الكفار المضريين المقصودين على المناطق الفاصلة بين البحرين أو نجران وبين المدينة، وهذا لا يكون لقريش التي كانت تقيم بتهامة في مكة بالضبط، وما كان لها يد على الطريق بين البحرين ويثرب ولا ما بين نجران ويثرب، ومن ثم فلا دلالة نرجوها من هذا الحديث، إلا ان يكون قولهم مضر، في الإشارة لسوى قبيلته، وهو ما يعني استبعاده من هذا النسب وإلا لقالوا من كفار قومك أو لذكروا أسماء القبائل التي يخشونها. ثالثاً: دعوة النبي على قريش ومضر 1) حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا، لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا العِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 11] قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ، قَالَ: «لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ » فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ 2) روى البخاري أيضا، قال: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ " وَأَهْلُ المَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ. • نلاحظ هنا قول الراوي أن أهل المشرق يومئذ من مضر مخالفين له، فالدعاء على مضر لم يكن على قريش، بل هو موجه إلى مضر في المشرق، ولعل هنا دلالة، تشير إلى افتراق قريش عن مضر في مفهوم رسول الله (ص)، وفي مفهوم الراوي، وتعقيب الراوي يشير إلى أن من حضروا للنبي (ص) في الرواية الأخرى لم يكونوا من قريش. رابعاً: السؤال عن اصل قريش: 1) جاء في البخاري: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ ، حَدَّثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ: قُلْتُ لَهَا: " أَرَأَيْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ، مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ " 2) جاء في صحيح البخاري: "حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا كُلَيْبٌ، حَدَّثَتْنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَظُنُّهَا زَيْنَبَ قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّبَّاءِ، وَالحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالمُزَفَّتِ» وَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ مِنْ مُضَرَ كَانَ؟ قَالَتْ: «فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ» 3) جاء في كتاب تهذيب اللغة للأزهري: "حدثَنَا محمدُ بنُ إسحاقَ السَّعْدِيُّ عَن الرَّمَادِيِّ عَن عبد الرزاقِ عَن مَعْمَرٍ عَن أَيُّوبَ عَن محمدِ بنِ سِيرِينَ: قَالَ سَمِعت عُبَيْدَة يَقُول: سَمعْتُ عَلِيّاً يَقُولُ: من كَانَ سَائِلًا عَن نِسْبَتِنَا فإِنَّا نَبَطٌ من كُوثى."، ورُوِي عَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ: سألَ رَجْلٌ عَلِيّاً: أَخْبِرنِي يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ عَن أَصْلِكُمْ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ فَقَالَ: نحنُ قَوْمٌ من كُوثَى. 4) جاء في كتاب تهذيب اللغة: "وَنَحْو ذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: نَحْنُ مَعَاشِرَ قُرَيْش حَيٌّ من النَّبَطِ من أَهْل كُوثى”. • نلاحظ في الفقرات 1 و2 و3 تكرار السؤال عن أصل قريش، أي أن هنالك تواتر في الإشارة على حالة حيرة سادت مرحلة ما بعد وفاة رسول الله، أو مرحلة علي بن أبي طالب في العراق، حول أصل قريش، حيث نجد ذلك في سؤال كليب لزينب عن نسب الرسول (ص) هل هو من مضر، وقوله: ممن كان، أمن مضر كان؟. وقول السائل في الآخر: " أَخْبِرنِي يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ عَن أَصْلِكُمْ مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ"، وفي قول علي في الرواية الأخرى: "من كان سائلا عنا"، والتواتر يعطي مصداقية أكثر للروايات. كما نلاحظ اختلاف الجواب حسب المرحلة، ففي السؤال المعاصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (توفي عام 40هـ) أجاب بأنهم من نبط كوثي، أي من نبط العراق، ويقصد بذلك النسب لإبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي كان في العراق، وهو ما يستبعد معه وجود مفهوم سائد حول النسب المضري لقريش، ولا غرابة فالسؤال كان قبل عام 40 للهجرة، حيث كانت الأمور أكثر تلقائية، بينما كانت زينب التي عاشت إلى مرحلة متأخرة (توفيت عام 74هـ)، وعاصرت عصر معاوية ويزيد ومروان وعبدالملك، حيث سادت مفاهيم جديدة حول الأنساب العربية، منذ عصر معاوية الذي كان يجتمع في مجلسه الرواة والشعراء من القبائل ممن بدأت المفاهيم الحديثة للأنساب على أيديهم، وهو ما جعلها تجيب بالسائد في حينه وهو المضرية، هذا رغم أن الإجابة ذاتها فيها اضطراب لقولها فممَّن؟، وكأن لسان حالها: (إذ لا يوجد بديل، فهو كذلك). ومما سبق فإن الروايات التي يحتج بها البعض لإثبات مضرية قريش لا تقوِّمُ حجة ولا يستقيم بها رأي، بل هي تشهد على مجهولية وجود علاقة بين قريش ومضر إلى ما بعد الخلفاء الراشدين، والراجح لدينا أن مضرية قريش كان قرارا أمويا عززته الأحداث، واتفقت عليه الأطراف، التي استفادت منه، كعقد بين السلطة وجزء من الرعية كونت العصبية للسلطة، فحرص الجميع على استمراره حتى ترسخ، وتم صياغته في زمن العباسيين، واصبح مسلمة، إلى ان جاء الدي ان أي (DNA) فأظهر حقيقة خطئها. والله أعلم.

الثلاثاء، 10 نوفمبر 2020

أخطاء مزوري امتاع السامر في محاولتهم مجاراة مرحلة الطباعة المفترضة تفضح تزوير الكتاب

   رغم كل ما كتب وقيل عن دلائل تزوير امتاع السامر، من حيث استخدامه لمفردات ومصطلحات حديثة، ووصوله إلى معلومات لم تكن معلومة في مرحلته، مما يثبت أن تأليفه لاحق لمرحلة شعيب بعشرات السنين، إلا أنني فوجئت بأن هنالك من لا زالوا يدافعون عن حقيقة مصدرية الكتاب وانتمائه لشعيب، بل وعن صحة معلوماته الخيالية.  

   لذا سأعود هنا لتناول أحد أهم علامات التزوير في الكتاب مما كنت طرقته في كتاب "عسير والتاريخ وانحراف المسار"، وسأضيف واختصر، لإرشاد الضالين، وتنبيه الغافلين، وإقامة الحجة على من اتبعوا الهوى، ممن يظنون بانهم يحققون مكاسباً لقبائلهم او مناطقهم من خلال تلك الترهات التي ساقها المزورون في الكتاب، أو الكتب الاخرى المشابهه، للعودة للرشد والتبرؤ من سمات الغباء، وسيكون حديثنا اليوم حول طريقة طباعة الكتاب وظهوره للعلن ومدى إمكانية قبول أن يكون هذا الكتاب طبع عام 1365هـ في مصر المحروسة.

    ظهرت لكتاب إمتاع السامر متزامنة نسختان في العقد الأول من القرن الهجري الخامس عشر ، إحداهما كتب عليها "مطابع الحلبي ـ القاهرة 1365هـ"، أي أن تاريخ الإصدار عام 1365هـ، والثانية كتب على صفحتها الأخيرة (دار النصر للطباعة الإسلامية) بدون تاريخ نشر، ولكن في الصفحة الأخيرة وضع رقم الإيداع وهو 4040/1987 وهو ما يشير إلى أن الكتاب قد أودعت نسخة منه للنشر رسمياً قبل نشره بتاريخ 1987م أي ما يوافق عام 1407هـ ، والكتابان متطابقان في رقم الصفحة ورقم السطر وموضع الكلمة في السطر وحتى في الحركات ومواقع الفواصل والنقاط بل وحتى بعض الندب في الخلفية على امتداد صفحات الكتابين، أي أن الأخير صورة من الأول حسب المفترض، رغم  أن دور النشر مختلفة والمرحلة مختلفة حيث هنالك فارق زمني قدره اثنان وأربعون عاماً اختلفت فيها طريقة الطباعة كثيراً، والعجيب أن الأول طبع بخط متقطع بينما الثاني والذي يفترض أنه نسخ منه خطه متصل وأكثر وضوحاً، على غير المفترض، وما يعنينا هنا هو النسخة القديمة المدعى نشرها عن طريق شعيب الدوسري عام 1365هـ.

   في مثل حالة كتاب إمتاع السامر فإن المنطق يقول بأن  آخر ما يمكن أن نقبض على خطأ المزور فيه هو طريقة الطباعة لكون آلات الطباعة القديمة والتي سادت خلال فترة الأربعينات الميلادية وما حولها ظلت متوفرة إلى مرحلة خروج الطبعة إلى العلن (منتصف مرحلة الثمانينات)، كما أن الورق المستخدم في حينه لا زال متوفراً، كما أن جزءاً ممن عاصروا مرحلتها وعملوا فيها لا زالوا أحياء في حينه مما يجعل عملية إعادة الطباعة بنفس الطريقة القديمة ممكنة جداً، ومن البديهي جداً أن نتوقع من المزور أن يلجأ إلى المحاكاة لما أنتج خلال تلك الفترة من حيث طريقة الطباعة والغلاف وغيرها،  ولكن هذا لا يمنع أنه قد يغفل فيسقط في أي الأخطاء مما يكشف جريمته.

   ولعل أول ما يمكن أن نلاحظه في كتاب "إمتاع السامر" أن المطبعة استخدمت حرف (ي) المنقوط في نهاية الكلمات في كل صفحات الكتاب، وهي طريقة لم تكن شائعة في مصر ـ حيث طبع الكتاب ـ في حينه ، فقد عرف عن المطابع ودور النشر المصرية اختصاصها بطريقة طباعة الياء غير المنقوطة والتي تماثل الألف المقصورة، وكانت هي الطريقة السائدة في المطابع المصرية، أما في العصر الحديث ومع انتشار وسائل الطباعة الإلكترونية فلا زال عدد قليل منهم يتمسك بها كإرث مصري، بينما اتجه الأغلبية وخاصة الناشرون الجدد إلى التخلي عنها، وهذه المعلومة يبدو أنها غابت عن القائمين على طباعة نسخة إمتاع السامر الممهور نشرها بتاريخ 1365هـ (أي ما بين عامي 1945ـ 1946م)، فأخرجوا نسخة شاذة عن بيئتها في تلك المرحلة.

   كما يلاحظ في تنسيق الكتابة في كتاب إمتاع السامر الالتزام بضم الفواصل والنقاط بالجملة أو المفردة السابقة وفصلها عما بعدها، وهو نمط جديد في الطباعة شاع بعد مرحلة طباعة نسخة مطابع الحلبي التي صدرت عام 1365هـ/ 1945م بسنين عديدة.

غلاف امتاع السامر ونلاحظ أن الطباعة تمت بمصر بتاريخ 1365هـ/  الموافق 1946م








أعلاه عدد من صفحات كتاب امتاع السامر ونلاحظ الياء  المنقوطة على غير المعروف في المطابع المصرية حتى ذلك التاريخ كما نلاحظ الالتزام بالطرق الحديثة في الترقيم وذلك بربط الفواصل والنقاط وبقية علامات الترقيم بالكلمة (الجملة) السابقة بشكل كامل على خلاف جميع الاصدارات العربية في حينه.

   ولكي نستوعب تطور الطباعة العربية سنعرج على تاريخ الطباعة العربية باختصار، وسنعطي بعض الأمثلة على تطور الطباعة منذ بداياتها.

   تذكر بعض المصادر ان هنالك مطابع خاصة نحتت حروفها بالعربي في لبنان والاسكندرية منذ القرن السابع عشر باجتهادات خاصة، وانتجت هذه المطابع بعض الكتب، وتواجدت بعض المطابع في القرن الثامن عشر بالدولة العثمانية، بينما نشأت صحيفة مطبوعة بالمغرب في مرحلة لاحقة، إلا ان الملاحظ بعد تتبع أقدم المراجع والكتب المتاحة الآن بالإضافة لنمط الطباعة الأول والذي استمر خلال معظم القرن العشرين أن الطباعة بالأحرف العربية بشكل واسع وتجاري بدأت أساسا في الهند والتي كانت مستعمرة بريطانية، فيبدو أن البريطانيين قد حرصوا على الطباعة باللغة الهندية التي يفهمها المجتمع ويمكنهم ايصال رسائلهم إليه عبرها، وبالتالي ظهرت مطابع باللغة الأردية التي تكتب بالأحرف العربية منذ وقت مبكر، ومن ثم ظهرت لنا الكتب العربية المطبوعة في الهند بدايةً خلال القرن التاسع عشر، وإذ أنه كان ينقص الأحرف الهندية الألف المقصورة، والتي هي غير مستعملة في اللغة الهندية ، وحيث كانت الكتابة الهندية لا تراعي وضع النقاط تحت الياء عندما تكون في نهاية الكلمة، لذا استعملت الألف المقصورة والياء برسمة واحدة في الكتب المطبوعة باللغة العربية في تلك المرحلة.

 ومما يميز هذه المرحلة ان علامات الترقيم (الفواصل والنقاط ...)، وفصل المقاطع الكتابية عن بعضها لم يكن معروفا ولا سائدا في الطباعة، فكانت الصفحة كتلة واحدة، ولا ينفصل سوى العناوين، وهذا انموذج من الكتب الهندية:

كتاب حرب بني شيبان مع كسرى الصادر من الهند عام 1888م/1305هـ

صورة من كتاب حرب بني شيبان مع كسرى المطبوع في الهند عام 1888م، ونلاحظ الاسترسال وعدم فصل المقاطع، وعدم وجود علامات الترقيم ، كما ان الياء المتممة للكلمة غير منقوطة دائماً

   وقد انتقلت تلك المطابع الأوروبية ذات الأحرف العربية (الأردية) إلى مصر التي سارعت باستيراد المطابع في عهد محمد علي، وبدأت الطباعة في مصر في تلك المرحلة، وكانت في بدايتها مماثلة تماماً للطباعة الهندية بالضبط من حيث رسم الياء بنفس رسم الألف المقصورة (غير منقوطة) عندما تكون في نهاية الكلمة، ومن حيث الاسترسال (عدم فصل المقاطع عن بعضها)، وانعدام علامات الترقيم، فتكون الصفحة بكاملها مقطعا واحداً، وربما استخدمت بعض المطابع دوائر أو نجوم للتمييز بين المقاطع، كما كان متبعا في النسخ اليدوية من الكتب، فكان لذلك أثره في الكتب الصادرة في مصر خلال القرن التاسع عشر للميلاد وبداية القرن العشرين ومن أمثلة ذلك التالي:




الكتابان أعلاه طبعا في مصر وهي كل من أبي معشر الفلكي (طبع بداية القرن العشرين) وكتاب تسهيل المنافع (طبع عام 1900م) ويحمل الكتابان نفس سمات الطبعة الهندية أعلاه من حيث الياء غير المنقوطة وانعدام علامات الترقيم واتصال الكتابة بكامل الصفحة بدون مقاطع

   وقد تطورت الطباعة في مصر واتسعت ونشأت بها دور الطباعة الاحترافية، وأنحت الهند حتى أصبحت هي مقر الطباعة الرئيسي للكتب الصادرة من جميع الدول العربية، كما تطورت طرق الطباعة واستعملت علامات الترقيم (التي يبدو أنها كانت مهيأة في المطابع من الأساس، ولكنها لم تكن معلومة في الوطن العربي من قبل)، وكان ذلك خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين تقريبا، حيث دخلت بيروت بعدها على الخط وأصبحت مقرا آخر للطباعة يتجه له المؤلفون والناشرون العرب.

 ومن ثم وبدخول بيروت فقد بدأت طريقة جديدة في الطباعة، إذ أن المطابع المصرية استمرت في اعتماد الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمة، ربما لأن التغيير سيكون مكلفاً في الوقت الذي لم يظهر فيه اي أثر منظور على وضوح المعنى ، إذ استمرأ الناس القراءة بهذه الطريقة وفهمها بسهولة، بينما المطابع اللبنانية بصفتها جديدة فقد تلافت هذا النقص للتميز، لذا فقد طرأ تمايزا جديداً، وهو ما أطلق عليه الياء المصرية والياء الشامية، وبات سمة للفرق بين الطباعة هنا وهناك، ولكن لم يكن يعرف عنها الكثير من المؤلفين فما كانت ملفتة، ولكنها معلومة للمتخصصين في  الطباعة.

   أما من حيث علامات الترقيم فقد ظلت تستخدم بنفس الطريقة القديمة في كل مطابع الوطن العربي حتى بداية مرحلة الثمانينات،  إذ لم يتم تنظيمها بالطريقة الأوروبية، فكانت مطابع مصر ولبنان ـ وكل الدول العربية التي دخلت لاحقاً ـ  تضع علامات الترقيم ـ كالفاصلة والنقطة وغيرها ـ على مسافة واحدة بين الكلمتين، فيوضع (space) قبلها وآخر بعدها، لذا فكل الاصدارات العربية في مرحلة ما قبل الثمانينات (وربما أواخر السبعينات) من القرن العشرين لم تلتزم بربط علامات الترقيم بالكلمة السابقة. 

وسنعرض بعض الكتب الحاضرة ـ كعينة عشوائية ـ والتي طبعت قبل فترة الثمانينات الميلادية، ومعظمها بعد التاريخ المفترض لطباعة كتاب امتاع السامر، والتي يفترض أن تكون أكثر ارتباطاً بالمفاهيم الأحدث في تنسيق الطباعة بصفتها طبعت في فترة لاحقة:

 


أعلاه صورة الغلاف وصفحة من كتاب في بلاد عسير الذي طبع بمصر بتاريخ 1371هـ الموافق 1952م، ويلاحظ فصل وتوسيط الفواصل والنقاط والالتزام باستخدام الياء غير منقوط في نهاية الكلمة حسب الطريقة المصرية في الطباعة في حينه


 



غلاف وصفحة من الموسوعة الميسرة المطبوعة عام 1965م ونلاحظ الالتزام بالياء غير المنقوطة بصفته مطبوعة مصرية، وبوضع علامات الترقيم على الطريقة القديمة (غير مرتبطة بالكلمة السابقة) 



مجلة مصرية في فترة السبعينات طبعت عام 1973م ونلاحظ الالتزام بالياء المصرية (غير المنقوطة في نهاية الكلمات)، كما يلاحظ أنه حتى ذلك الحين لم تكن الطرق لحديثة في وضع علامات الترقيم قد استعمل إذ التزمت المطبعة بتوسيط العلامات بين فراغين.


   وما ذكرناه عن هذه الكتب ـ كنماذج ـ ينطبق على كل الكتب التي صدرت في نفس المرحلة من المطابع المصرية، حيث سادت الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمات، وينطبق على كل المطبوعات العربية في تلك المرحلة من حيث عدم اتباع الطرق الاوروببية في ربط علامات الترقيم بالكلمات السابقة.

   هكذا وجدناها جميعاً، ولكن امتاع السامر شذ عن هذه القاعدة، واستخدم طريقة حديثة في كتاب أقدم منها كلها، ما يدل دلالة واضحة على أنه مزور في مرحلة حديثة لم تسبق مرحلة الثمانينات الميلادية من القرن العشرين، ولا ينتمي لشعيب الدوسري الذي توفي عام 1946م  كما تقول نفس المصادر.

والله أعلم