الاثنين، 30 سبتمبر 2019

ما جاء عن إمارة أبناء الأمير علي بن مجثل على عسير


   كنت قد تطرقت لامارة ابن الأمير علي بن مجثل على عسير بعد وفاة ابيه في كتاب "عسير والتاريخ وانحراف المسار" نقلا عن مصادر معاصرة، وقد تحدث معي الكثير وتواصل معي الكثير حول ذلك، لذا فهنا سيكون ايضاح الوضع بشكل كامل، وستكون المصادر العسيرية حاضرة ايضاً.

   المتابع لما كتبه مؤرخو عسير في القرن الماضي والمعاصرون ينتابه الدهشة من غرابة بعض الأخبار ووجود حوادث وإمارات تجاهلها مؤرخوا عسير بينما كانت تطل معالمها بين ثنايا أخبارهم أو في أخبار معاصريها القادمين من الخارج.
 فالبعض قد يندهش من خبر عابر كتبه عبدالرحمن الحفظي (من اعيان القرن الثالث عشر الهجري) في حوليته، ونقله أحد أحفاده، ونشر في كتاب "مجموع في تاريخ عسير"، حيث أرخ الحفظي لوفاة سعيد ابن علي بن مجثل في نهاية شوال من عام 1261 هـ واطلق عليه الأمير الهمام سعيد ابن الأمير علي بن مجثل !
وهذا هو النص من نفس الكتاب ص234:

   فلماذا اطلق الحفظي على سعيد بن علي بن مجثل لقب (الأمير الهمام)، بينما لم يكن يطلق لقب (الأمير) إلا على أمير عسير فقط ولم يكن هنالك ألقاب تشريفية أميرية لأسرة الامير في تلك المرحلة، فلم نجد شيئا من ذلك في المؤلفات العسيرية.
   ويمكن ملاحظة ذلك في كامل الكتاب، ومن ذلك ما جاء غير بعيد من الخبر السابق، في الصفحة 237 من نفس المصدر، وفي احداث عام 1268هـ عندما أطلق على أخيه / عبدالله بن علي بن مجثل اسمه بدون أي ألقاب وبالمثل أطلق على / محمد بن عايض  في عصر وجود ابيه في السلطة اسمه دون أي ألقاب.
 وهذا هو النص:


   فهل كان سعيد بن علي بن مجثل اميرا لعسير قبل وفاته !؟

   عندما نعود لمرحلة ما بعد وفاة الأمير علي بن مجثل سنجد أن  أحد معاصري هذه المرحلة وصف عايض بن مرعي ما بعد وفاة علي بن مجثل بعبارة (حاكم مؤقت لعسير)، ثم أشار لتعيين ابن علي بن مجثل أميرا لعسير. 
   فقد أورد تاميزيه في كتاب "رحلة في بلاد العرب"، اخبارا جيدة عن الوضع، ولكنه لا شك لم تكتمل نصوصه، وكان هنالك نقص في النصوص عما هو مشار اليه في عناوين الترجمة، فمثلاً نجد هنا نص لم يتم ترجمة تفاصيله بشكل كامل، حيث ورد ضمن عناوين مواضيع الفصل الأول عبارة "عايض بن مرعي حاكما مؤقتا لعسير"، بينما لم نجد التفاصيل فعلا في نفس الفصل.
 وهذا هو العنوان متضمنا العبارة:

   وقد أشار محمد خير البقاعي المختص في المصادر الفرنسية إلى حاجة الكتاب إلى إعادة الترجمة، (انظر موضوعي في المدونة:  ما لم يترجم من المصادر الفرنسية عن الجزيرة العربية ـ محمد خير البقاعي)، ولعل ذلك يعود إلى أن ترجمة الكتاب ـ كما يذكر المحقق ـ تمت على مراحل، حيث طلب المحقق من مجموعة من الاساتذة في احدى الجامعات الامريكية ترجمة الكتاب للانجليزية، ثم قام المحقق ذاته بالترجمة من الانجليزية للعربية، ولا شك أن مثل هذه العملية يحدث فيها الكثير من الاخطاء.
   ولكن الجميل أنه أتي في نفس كتاب تاميزيه ، في موقع آخر، نص صريح واضح يفيد بإقامة العسيريين لابن الأمير علي بن مجثل أميرا على عسير، واستمرار عايض بن مرعي في تسيير الأمور، وهذا النص يؤكد لنا بوضوح مفهوم الاشارة العرضية السابقة، الواردة في مخطوط عبدالرحمن الحفظي.
وهذا هو النص من نفس كتاب تاميزيه:

   وبعد ذلك من الطبيعي أن نتساءل ...!، من هو الامير الصغير الذي خلف أباه مباشرة ؟ وكم استمر حكمه واين ذهب ؟ هل كان سعيد نفسه أم سواه ؟ ولماذا لم يورد مؤرخو عسير عنه شيئا ؟ ومن هم أبناء علي بن مجثل ؟ ومن أكبرهم ؟.
   بخصوص أبناء الامير علي بن مجثل، فهنالك تضارب في الأخبار حول عدد أبنائه، إذ يذكر محمد بن زلفة أن لديه ابنان هما عايض ومحمد، بينما يرفض علي عوض آل قطب وجود عائض ويضيف لمحمد سعيد وعبدالله، ويحيل ما جاء في رسالة علي بن مجثل لمحمد الحازمي عندما قال في نهايتها "ومن لدينا الولد عائض، ومحمد يسلمون عليكم" إلى احتمال أنه يقصد بعض رجاله من آل يزيد، وهم عايض بن مرعي ومحمد بن مفرح، وانه استخدم كلمة الولد نظرا لاحتمال فارق السن بينه وبين عايض ومحمد، ولم أر آل قطب يستند إلى أي نص يشير إلى اقتصار ابنائه بعده على الثلاثة الذين ذكرهم، بل هو يحيل لنصوص تذكر كل منهم على حدة،  كما لم أجده يحيل الخبر إلى أحفاده تواترا.
ورغم عدم أهمية ذلك فيما نحن بصدده، إلا أن الحق أن اشارة علي بن مجثل ألى الولد عائض ومحمد لا يمكن أن توجه إلا بقصد أبنائه هو إذ لا يستخدم مصطلح الولد للاشارة لغير الابن في اللهجة المحلية بعسير، أما غير الابن فيقال له: الغمر (غالبا)، أو الفتى، أو السفيه، أو الغر، كما أنه لا يشار للغريب بالاسم المفرد، فالأصح أن يقول: الولد عايض بن مرعي ومحمد بن مفرح، ولا يقتصر بالاسم مفرداً إلا للابن، والاهم أن افتراض الاستاذ علي آل قطب لذلك بني على أن هنالك أسرة حكم يزيدية ينتمي إليها كل من ابن مجثل وابن مرعي وابن مفرح، كما أورد كيناهان كورنواليس، لذا فمن الطبيعي أن يشير لهما باسم الولد، وهذا خطأ، فليس هنالك أي صلة نسبية بين هذه الأسر، فعائض بن مرعي لم يكن ذو صلة بأسرة علي بن مجثل، كما وصفه سليمان شفيق باشا (متصرف عسير 1326 ـ 1330هـ) في مذكراته، فقد ذكر صراحة أنه لا ينتمي إلى سلالة الامراء.
 وهذا هو النص:

بل انه أشار في نص آخر بما يفيد بانفراد عائض بن مرعي بالانتماء اليزيدي، وخصص الانتماء اليزيدي بآل يزيد الشعف، وأشار لدعوى آل يزيد الانتماء ليزيد بن معاوية، وأنهم لا يملكون أي وثائق تشير لذلك سوى تداوله بينهم، وقولهم أنهم توارثوه.
وهذا هو النص:

   
   ومن خلال ما تقدم فنحن نفترض بأن أبناء علي بن مجثل كانوا أربعة: أكبرهم عائض، ثم محمد، ثم سعيد، وعبدالله، وربما كان لديه عندما أرسل الرسالة طفلان فقط، وهما عائض ومحمد ثم أنجب سعيد وعبدالله لاحقا خلال السنوات التي عاشها بعد ذلك، أوربما أن عائض ومحمد كانوا يعقلون، لذا اختصهم بالذكر، بينما سعيد وعبدالله (أو أيهما في حينه) كانوا اطفالا صغارا لم يميزوا بعد.
ومن ثم فإن الراجح لدينا أن عائض بن علي بن مجثل قد تولى السلطة في البداية ـ بصفته الأكبر سناً ـ تحت وصاية عايض بن مرعي، إلى أن توفي.
 وحيث لم نجد خبر وفاته في المصادر العسيرية المعاصرة حتى الآن، فنقول لعله توفي مبكرا، وربما كان حينها لم يصل سن الرشد بعد، فتم تنصيب أخيه سعيد بن علي بن مجثل أميرا لعسير من بعده، والذي استمرت امارته إلى عام 1261هـ، ومن ثم كان خبر وفاته بعد أن وصل سن الرشد ومارس الإمارة حدثا ذا اهمية، مما جعل عبدالرحمن الحفظي يدونه ويشير اليه باسم الأمير، والذي هو ـ كما أسلفنا ـ لقبا خاصا بمن يتسنم الإمارة في عسير، وليس لسواه حتى من أقرب أقاربه.

   واذا كان قد تأكد لنا تتويج سعيد بن علي بن مجثل أميرا لعسير، وترجح لدينا تتويج أخيه عائض قبله، فإننا لم نجد ما يدل على مرحلة ما بعد سعيد، فهل تتوج أحد إخوته بعده، أم أن الامر ترك نظرا لوفاة الأميرين، ودخول الشرعية العثمانية على خط السلطة في عسير.
   كما لم يصلنا من المصادر العسيرية المعاصرة ممن اطلعوا على وثائق عسير القديمة، ما يعطي فكرة عن مدى ممارسة سعيد السلطة الفعلية قبل وفاته ، حيث أن قول عبدالرحمن الحفظي عنه (الأمير الهمام) يحمل دلالة على أنه مارسها، فكم المدة ؟.
أتمنى أن نجد جواب ذلك قريبا حين الافراج عن المزيد من الوثائق العسيرية بشكل أفضل.

   ويبدو أن عايض بن مرعي خلال مراحل ما قبل وفاة الأمير سعيد بن علي بن مجثل قد حاول تجاوز الشرعية المحلية التي فقدت، أو كانت على وشك انتهاء الصلاحية، إلى محاولة الحصول على الشرعية الخارجية لسلطته ـ التي ترسخت خلال سنوات وجوده مسيراً لأمورها ـ من الدولة العظمى في حينه وهي الدولة العثمانية.
   فالوثائق العثمانية تشير إلى أنه قد وسط شريف أبي عريش،  للتقدم إلى شريف مكة، للتوسط له لدى الباب العالي، لاصدار فرمان بتعيينه شيخا على عربان عسير، كما بعث الرسائل لشريف جدة ولشريف مكة، وكل ذلك كان في سبيل الحصول على الشرعية من الدولة العثمانية خلال مرحلة ما قبل وفاة الأمير سعيد بن علي بن مجثل بحوالي ثلاث سنوات وهذا نص أحد مراسلات الدولة العثمانية التي تدل على ذلك:


وقد صدرت فعلا الموافقة من المجلس الأعلى بتعييين عايض بن مرعي شيخا لعربان عسير، وهذا نص الفرمان أدناه: 



   لذا فلا عجب أن صراعا وخلافا حدث في عسير بعد وفاة عايض بن مرعي حول من يتسنم السلطة بعده، حيث انقسم الناس بين من يرى تنصيب اي من: ابن علي بن مجثل (لم يذكر اسمه في الوثيقة) أو محمد بن مفرح، وبين من يريد تنصيب محمد بن عايض.
وهذه صورة الوثيقة:


   وفي النهاية نأمل أن تخرج المزيد من الوثائق العسيرية التي تعطينا المزيد من التفاصيل عن إمارة أبناء علي بن مجثل، وانصاف تاريخهم.
   وقد وضعت هذه اللمحة مبدئيا هنا في محاولة للفت الانتباه.
   ولي عودة للموضوع ضمن سواه في موقع آخر إن شاء الله.
هذا والله الموفق





الخميس، 2 مايو 2019

رواية اسلام اهل جرش


   لا زال هنالك الكثير ممن يدندن حول قصة صرد بن عبدالله الأزدي  ويستدل بها على الأنساب، إذ طغى حديث قصة الصرد بن عبدالله على رواية دخول الاسلام جرش في هذا العصر على ما سواها. وكي تتضح الحقيقة حول قصة دخول الإسلام لجرش، إذ أن هذا حق مستحق للجرشيين. فمن الظلم مثلاًَ أن تروى قصصا حول إدخالهم عنوة للإسلام، ويتجاهل ما سوى ذلك، إذا كانت الحقيقة غير ذلك، لذا سنعرض هنا ما جاء حول دخول الإسلام لجرش ونقيِّمه.
  

   لقد ورد في خبر دخول الإسلام لجرش روايتان، إحداهما هي رواية ابن اسحاق في السيرة والتي نقلها عنه كل من أوردها بعده كالطبري والبيهقي وابن الأثير وابن كثير، وتذكر حدوث حروب ونزال تمكن فيه صرد بن عبدالله الأزدي من هزيمة أهل جرش وخثعم ومن ثم ولاه الرسول rعلى جرش، وهي الرواية التي تبنتها الكتابات الحديثة في منطقة عسير عن دخول الإسلام للمنطقة.
   أما الرواية الثانية وهي رواية قدامة بن جعفر والبلاذري والبكري وغيرهم، "، وهي تتحدث عن إسلام أهل جرش سلما وبدون حرب ومن ثم ولى النبي r عليها أبو سفيان بن حرب. وهنا سننقل الروايتين ونرى من خلال التحليل والاستقراء أيهما يمكننا أن نقبلها وستكون راجحة وأيهما ستكون مرجوحة، أو ربما مستبعدة.

الرواية الأولى قصة "صرد بن عبدالله الأزدي".

جاء في كتاب السيرة لابن اسحق والذي نقله عنه ابن هشام ما يلي:




"قدوم صرد بن عبد اللَّه الْأزديَّ 


إسلامه 



قال ابن إسحاق: وقدم على رسول اللَّه r صرد بن عبد اللَّه الْأزدي، فأسلم، وحسن إسلامه، في وفْد من الأزد، فأمّره رسول اللَّه r على من أسلم من قومه. وأمروه أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبل اليمن. 


قتاله أهل جرش 



فخرج صرد بن عبدالله يسير بأمر رسول الله r حتى نزل بجرش، وهي يومئذ مدينة مغلقة، وبها قليل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم، فحاصروهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها منه، ثم إنه رجع عنهم قافلاً حتى إذا كان إلى جبلٍ لهم يقال له شكر، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزماً، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلاً شديداً. 


إخبار الرسول وافدي جرش بما حدث لقومهما



وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله r بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله r عشية صلاة العصر، إذ قال رسول الله r بأي بلاد الله شكر ؟ فقام إليه الجرشيان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك يسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر؛ قالا: فما شأنه يا رسول الله ؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن، قال: بجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما إن رسول الله لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله r فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما؛ فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم، فخرجا من عند رسول الله r راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصلبهم صرد بن عبدالله، في اليوم الذي قال فيه رسول الله r ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر. 


إسلام أهل جرش



وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله فأسلموا، وحمى لهم حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة، وللمثيرة، بقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد: وكانت خثعم تنال نصيب من الأزد في الجاهلية، وكانوا يعدون في الشهر الحرام:



يا غزوة ما غزونا غير خائبـــة = فيها البغــال وفيها الخيل والحمر



حتَى أتينا حميرا في مصانعها = وجمع خثعــم قد شاعت لها النّذر



إذا وضعت غليلا كنت أحملـه = فما أبالي أدانوا بعــد أم كَفـــروا" ... انتهى


هذه الرواية تواجهها العديد من الإشكاليات التي تجعلنا نقف كثيرا قبل قبولها ومنها:

1ـ الحديث "ضعيف مرسل"، ومجرد أنه ضعيف ومرسل يعني أننا لا نملك الحق في الاحتجاج به من الناحية الشرعية كحديث نبوي، ولكنه يظل رغم ذلك رواية تاريخية، ولكنها ضعيفة أيضاً، لانفراد ورودها كحديث ضعيف مرسل، نقل عنه البقية، ولم ترد مستقلة كخبر متواتر.

2ـ مدار الحديث في جميع المصادر هو رواية ابن اسحق، وقد نقلها عنه عدد من الرواة والأخباريين، ومن ثم فالمصدر الأساسي لهم جميعا هو ما ورد في كتاب السيرة الذي جمع فيه ابن اسحاق الغرائب التي لم يسبقه إليها أحد، وعنه يقول "محمد حميد الله" محقق كتاب سيرة ابن اسحاق المبتدأ والمبعث والمغازي: "وأكبر طعن طعنه به المحدثون هو أن ابن إسحاق يدلس الأحاديث. فروى الخطيب "أن أحمد بن حنبل ذكر محمد بن اسحاق فقال: كان رجلاً يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. ، سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبدالله إذا تفرد ابن إسحاق بحديثه تقبله ؟ قال لا والله، إني رأيته يحدث في الجماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا"، ويقول محمد بن طاهر البرزنجي عن ابن اسحاق:"فهو مدلس"، ومن ذلك ننتهي إلى أن المصدر غير موثوق، وهذا يضعف من الثقة بالرواية بدرجة كبيرة.

3ـ من الملاحظات على الرواية أن الوفد الذي ورد للنبي قدم باسم "وفد الأزد" والصرد بن عبدالله ورد اسمه في الرواية: "الصرد بن عبدالله الأزدي"، ولم يرد في الرواية ما يشير إلى أي انتماء لهم أدنى من الأزد !. وهذا أمر غير منطقي، فالأزد جذم عظيم من أجذام العرب، يتألف من قبائل وشعوب كبرى منتشرة في حينه على مساحات واسعة متفرقة من البلاد بدءاً من الشام، إلى العراق، إلى البحرين، إلى عمان، إلى المدينة،  إلى مكة، إلى الطائف، إلى تهامة، إلى السراة، ولا يصح أن يحمل احد الفروع الصغيرة اسم الكل، فقد قدمت منهم وفود، كان كل منهم يحمل اسم قبيلته الأدنى، ولم يقدم أيهم حتى باسم أي من الفروع الرئيسية من الأزد ، فقد ورد خبر وفد دوس، ووفد ثمالة، ووفد غامد، .. وغيرهم، فما بال هذا الوفد جاء يحمل اسم الأمة كلها، فهذا لا يوازيه إلا أن نسمع عن وفد معد أو وفد نزار أو وفد قضاعة، وذلك لم يحدث بديهياً، وهذا يدل على التكلف في الرواية، والبحث عن دلالة أسهل إلى القاسم المشترك، ممن لا يعرف المزيد من التفاصيل، فادعى واضعها أن وفدا مجهولاً مكوناً من عدة أشخاص، قدم من موقع غير معلوم، يدعي تمثيل الأزد كلها، فقبل منه ذلك، وكلف بمهام كبرى، فأداها، ولم يسأل ولم يخبر عما هو أدنى في انتمائه، وهذا لا يصح.

4ـ أورد الراوي أن حربا حدثت بين الصرد وأهل جرش ـ بعد تراجعه عن الحصار ـ عند جبل كان اسمه "كشر" وسماه الرسول (ص) "شكر"، بينما لا يوجد على أرض الواقع أي جبل اسمه شكر ولا كشر حوالي موقع جرش ولا حتى في حدود المنطقة، بل هنالك جبل مشهور اسمه "ضمك"، أطلق بعض الكتاب عليه "شكر" !، وهذا اجتهاد لا صحة له البتة، ولعل أوضح دليل على عدم وجود الجبل أن الباحث/ محمد بن احمد بن معبر الرفيدي والذي هو أحد أبناء تلك المنطقة ويعرفها جيداً، لا زال يبحث ـ في آخر أعماله في دورية القول المكتوب ـ حول موقع جبل شكر ويبدي رأيا (اجتهاديا) مخالفا  لما عليه البعض من أن جبل ضمك هو جبل شكر، ويقترح ـ مجتهدا ـ جبلا آخر.

5ـ الملاحظة الأهم هو أن متن الرواية يحوي الكثير من الغرائب، فلنا أن نتخيل غرابة أن الرسول (ص) والذي لا ينطق عن الهوى - يأمر الوفد الذي قدم بهدف التعرف والدخول في الإسلام، لا أن يتعلموا الإسلام أولاً حتى يرسخ الإيمان في قلوبهم، بل أن يحاربوا من يليهم من الكفار بذاتهم وتحت قيادة أحد أفراد الوفد !، والأعجب أن نجد الرواية تقول أن الرسول r بعد أن أمرهم بجهاد من يليهم من الكفار، يعود أثناء المعركة ليدعو الله بأن يرفع عن عدوهم الذي أبى إلا أن يقاتل دون كفره، ثم نجد ما هو أغرب من كل ذلك، وهو أن المجاهدين (المفترضين) الذين يدعون أنهم يقاتلون الكفار ليدخلوا في الإسلام، بعد أن انتصروا عليهم، يقول شاعرهم:

إذا وضعت غليلاً كنت أحمله                           فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا

إذن فالحرب التي خاضوها كانت دعوى الجاهلية !.

 فهل من اليسير علينا أن نقبل صحة رواية هذا الحديث الذي وصف من أهل العلم بـ(الضعيف المرسل)، والذي يشير إلى أن النبي r بدلاً من أن يدعو الوفد إلى التفقه في الدين ثم إلى دعوة من يليهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما جاء في كتاب الله (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، نجد أنه قام بتوجيه القوم الذين للتوا أسلموا - ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم - بمحاربة أعدائهم في الجاهلية باسم الإسلام، فاستغلوا هذه الأوامر في القتل وسفك الدماء، لا لنشر الإسلام، بل لتفريغ شحناتهم الجاهلية بدعوى الجهاد ؟!.  

ومن الملاحظات أيضاً أن الرواية تشير إلى أن أهل جرش بعد أن غزاهم الصرد أرسلوا رجلين إلى يثرب "يرتادان وينظران"، وهو ما يدل على جهلهم بخبر ظهور النبي (ص)، وهذا مخالف للروايات الأخرى، حيث كان النبي (ص) قد أرسل قبل فتح الطائف رجلين من الصحابة إلى جرش ليتعلما صناعة الدبابات والمنجنيق والعرادات واستعمالها، ومثله فعل أهل الطائف استعداداً للمعركة، كما جاء في المصادر الأخرى.  

وعندما نضيف لكل ذلك ما يلاحظ من اضطراب الرواية وتناقضها مع غيرها، إذ الروايات الأخرى تشير إلى أن النبي r قد ولى أبو سفيان بن حرب على جرش بدايةً، ثم ولاه نجران وولى سعيد بن القشب على جرش، بينما الرواية التي بين أيدينا تشير إلى أن النبي r قد ولى صرد بن عبدالله على جرش.

وكل هذه الملاحظات مجتمعة تجعلنا نستبعد رواية ابن اسحاق، فالواضح أنها لم تكن إلا واحدة من رواياته التي حبكها الوضاعون فنقلها في كتابه، وما أكثرها.

 ومما يجعلنا نؤكد على التخلي عن هذه الرواية كليا أن هنالك رواية أخرى أكثر توازنا وموثوقية من هذه تناقضها، وتتوافق مع بقية الأخبار في المصادر التاريخية الأخرى، وممن رواها قدامة بن جعفر صاحب الخراج، والبلاذري والبكري وغيرهم، وقد جاءت الرواية كما يلي: 

" تبالة وجرش

حدثني بكر بن الهيثم عن عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: أسلم أهل تبالة وجرش عن غير قتال، فأقرهم رسول الله r على ما أسلموا عليه وجعل على كل حالم ممن بهما من أهل الكتاب ديناراً واشترط عليهم ضيافة المسلمين وولى أبو سفيان بن حرب جرش"



 
 وكما نرى فالرواية هنا مختلفة عن تلك، وهي تنفي حدوث القتال، وهذه الرواية بالإضافة لاتصافها بالاتزان، فإن انفرادها بالإشارة إلى وجود أهل الكتاب في جرش وتبالة يعطيها مصداقية أكثر، فهي دلالة على أن كاتبها لم يقلد أحداً، ولم يراعِ أحداً، وأن الرواية التي خلت من الأساطير تواترت عن مصدر يحمل درجة جيدة من المصداقية، بل ان أحد مصادرها هو أحد دلالات المصداقية لهذه الرواية، وهو قدامة بن جعفر ـ صاحب الخراج ـ، فقد ولي الرجل سجل الخراج وقضى زمنا عليه، وتنقل خلال ذلك بين المدن واطلع على سجلات الخراج، ولعل في النص ما يدل على صلتها بسجلات الخراج حيث ورد فيه أن النبي وضع على كل حالم ممن بها (أي جرش) من أهل الكتاب دينارا وفرض عليهم ضيافة المسلمين، ولعل هذا مما يفترض أنه مقيدا في سجلات  الخراج، وأنه كان موكلا لصاحب الخراج العمل على استمرار تنفيذه، ما يعطي دلالة على مصدر ذو موثوقية جيدة وارتباط مباشر بالخبر، ومما يقود إلى المزيد من التأكيد على صحة هذه الرواية إشارتها إلى أهل الكتاب في الحاضرتين المذكورتين مصداقاً لما تحمله المصادر الأخرى السابقة واللاحقة، فقد كان هنالك يهود ونصارى بالفعل في حواضر منطقة عسير كجرش، وترج تجاهل وجودهم الخبر الأول، والذي يتحدث عن قبيلتين متحاربتين (خثعم والأزد)، ولم يرد به أي شيء يشي عن الطابع الحضري لجرش، ولا عن وجود أهل الكتاب (اليهود والنصارى) فيها، وهو الخبر الذي حملته بقية الأخبار المتواترة عنها، ومن ذلك ما جاء في الحديث المتواتر عن عبدالله بن عمر أنه: "قدم رجل نصراني من أهل جرش تاجراً فكان له بيان ووقار، فقيل: يا رسول الله، ما أعقل هذا النصراني... ، إلى آخر الحديث"، والحديث  باستقراء مدلولاته، يمكن اعتماده كمؤشر دال على مفهوم عصره، من حيث وجود النصارى (أهل الكتاب) في جرش وتبالة، ومما يؤكد ذلك ما ورد في نص وثيقة يهودية كتبت في بداية (القرن السادس للهجرة) حيث تشير إلى أن اليهود كانوا يتواجدون في "ترج" (إحدى مدن منطقة عسير المجاورة لجرش) إلى القرن الهجري الخامس، ففي رسالة ابن ميمون (الراب موشيه بار ميمون) المعروفة باسم (رسالة إلى اليمن) إشارة إلى "مجموعة ترج" كأحد مجموعات اليهود الناشطة على مستوى الوطن العربي في حينه، (القرن الحادي عشر للميلاد/ القرن السادس للهجرة)، و"ترج" هي إحدى الحواضر في منطقة عسير، وتقع فيما بين مدينتي جرش، وتبالة، ولا شك أن هذا الوجود اليهودي في ترج في تلك المرحلة، ووجود النصارى واليهود في نجران المجاورة منذ العهد الجاهلي كما هو معلوم، واستفاضة وجود النصارى في جرش والتي تسوق إليها الأحاديث المذكورة، بالإضافة للطابع الحضري لجرش والذي تدل عليه اهتمامات أهلها واختصاصهم بالصناعات العسكرية والحرفية والتي عادة ما تكون من اختصاصات اليهود، بينما كان يأنف منها العرب، كل هذا يعطينا دلالة أولية على حضور سكاني لأهل الكتاب في العموم في منطقة جرش (المركز الحضاري والصناعي والتجاري الأكبر في المنطقة)، وهو ما يتوافق مع رواية البلاذري وقدامة حول وجود أهل الكتاب في جرش وتبالة - اللتان تحيطان بترج من الشمال والجنوب - وتقنين التعامل معهم من قبل النبي (ص)، ومن ثم تأتي رسالة ابن ميمون التي أشرنا إليها لتؤكد ذلك، لذا فهذه الرواية هي الأصح والمعتمد لدينا، وهو حق علينا جميعاً لأهل جرش في ذلك الزمان الذين أرسلوا وفدهم للنبي (ص) وأسلموا طواعية دون حرب أن نوضح ذلك. ... والله أعلم.

الأربعاء، 13 فبراير 2019

حول موضع قريش من هيكل السلالات العربية

   منذ بدأت عملية الفحص الجيني وبدأ التعامل معها من قبل بعض المهتمين بالأنساب لم يتوقف الجدل ولم ينتهي إلى نتيجة حتى الآن,  ولعل من أهم الأسباب لذلك هو عدم توافق النتائج مع المدونات التاريخية حول الأنساب، ومن ثم محاولة كل جهة اثبات وجهة نظرها حول هيكل الأنساب العربية .
   وحيث أن هنالك دليل واحد يمكننا من خلاله الوصول إلى مدى مصداقية الهيكل ألا وهو الوصول إلى السلالة الهاشمية القرشية من خلال تتبع سلالة الحسن والحسين (رضي الله عنهما)، حيث أنه عني بتوثيقها بشكل جيد نظرا لارتباطها بمفاهيم دينية لدى بعض المذاهب والطوائف، لذا فقد حرص النسابة والمؤرخون وغيرهم على تتبع حركة سلالة الحسن والحسين منذ بدأ التدوين في التاريخ الإسلامي وحتى الآن، فلم يخل قرن من الزمان لم يكتب فيه مؤلِّف، أو يشار عبر مؤلَّف ما  إلى السلالات الحسنية والحسينية، وبالذات تلك الأسر المشهورة التي  حكمت مكة واليمن والمدينة المنورة والمخلاف السليماني ثم تلك المنبثقة من أشراف مكة وهم سلالة الأسرة الملكية في الأردن. فلا شك أن أشهر وأوثق الأنساب الهاشمية تتمثل في هذه الأسر ألا وهي أسرة آل الرسي أئمة اليمن، والقتاديون في تهامة الحجاز أشراف مكة، والسليمانيون أمراء المخلاف السليماني والطاهريون الأعرجيون أمراء المدينة المنورة, بالإضافة للموسويون الحسينيون في العراق وشرق الجزيرة العربية وايران، وقد التقت هذه السلالات تدريجيا  ـ كما هو متوقع ـ وبنفس الأعمار التاريخية المعروفة لهم، والمدونة في كتب التاريخ ـ وبانتظام ـ تحت سلالة واحدة.
    وقد قمت بعمل مشجرة مبسطة للأسر المشهورة من الطالبيين موضحا بها طريقة التقائها لتبسيط الاطلاع لمن لم يطلع عليها، أو أشكل عليه تتبع المشجرة التي وضعها مشروع بني هاشم وقريش الجيني، علما بأن التحورات بعضها ثابتة وبعضها متغيرة، كما أن هنالك بعض الأسماء التي لم تظهر لها تحورات حتى الآن مثل سليمان بن عبدالله بن موسى (جد السليمانيين أمراء المخلاف)، والحسن بن علي بن أبي طالب، ولعل ذلك يعود لعدم انتظام ظهور التحورات في البشر لزوما، أو ربما لأسباب تقنية تتعلق بتطور وسائل الفحص وهو ما يتيح فرصة ظهورها مستقبلا، إلا ان ذلك عموماً لم يؤثر في وضوح وتوافق التسلسل والتدرج للأنساب ـ مع توافق الأعمار ـ إلى الوصول إلى التحور الأكبر L859 الذي يفترض أن السلالة القرشية تقع تحته، ثم امتداداً حتى الوصول إلى التحور المعدي المفترض  FGC1723 ، ولعل المزيد من التطور في هذا العلم سيكشف لنا التحورات التي لم تظهر حتى الآن.
   وهذه صورة للمشجرة التي قمت بتصميمها مع اعتذاري عن أي زلل أو أخطاء قد تظهر، ولا شك أن الوقت والمزيد من التطور في علم السلالات الجينية البشرية سيظهر المزيد من التغيرات والإضافات، ولكن لا شك أنها ـ وعطفا على التوافق الحاصل ـ لن تكون جذرية، ولكنها ستزيد وضوح ومصداقية ارتباط السلالة الهاشمية بهذا التحور, وهذه هي المشجرة:


   لا شك أن التقاء هذه الأسر ناهيك عن الأسر الأخرى المعروفة بهاشميتها ممن لم تتشتهر بإمارة أو بحكم محلي، بالإضافة لالتقاء القرشيين الذين لا زالوا يحملون اسم القرشي ويقطنون في بلاد قريش القديمة ـ سواء قريش المغمس أو سواهم ـ مع أبناء عمومتهم من الهاشميين يعني أننا أمام السلالة القرشية، ذاتها دون ادنى شك، وأي جدل حول ذلك بعدها لا شك أنه مجرد إضاعة للوقت، وعبث، واتباع للهوى.
ومن خلال ما تقدم فإن قريش قد انفردت بسلالة مستقلة تشاركها فيها قبيلة بني صالح فقط ـ حتى الآن ـ وتلتقي بعينات سلالة أوروبية (حديثة) قبل التقائها ببقية قبائل معد (المذكورة بكتب الأنساب)، وطي ـ وربما قبائل أخرى ـ، تحت التحور الجامع FGC1723 ، وهذا لا يتوافق مع ما ورد في كتب النسب، وهو ما يشير إلى خطأ جذري، ومن ثم فلا بد من التسليم بوجود أخطاء جذرية أخرى في كتب الأنساب، يجب ان لا نفصلها على مقاس أهوائنا.
   والواضح أن هنالك خسائر فادحة سيتحملها الباحثون عن المفاخر في الأنساب، ويجب التسليم بها، فلا شك أن هنالك قبائل عربية مشهورة لا تقع في مواقعها التاريخية، ومن ثم فقد نجدها خارج السلالة J1 ويجب قبول ذلك وتوقعه.
فكما ظهرت قبيلة كبرى بحجم قبيلة حرب تهيمن على مساحة كبيرة ـ تعد أهم المواقع في الجزيرة العربية ـ على الهابلوقروب E فعلينا توقع وجود قبائل أخرى من سلالات أخرى متداخلة مع سلالة J1  منذ القدم.