الثلاثاء، 10 نوفمبر 2020

أخطاء مزوري امتاع السامر في محاولتهم مجاراة مرحلة الطباعة المفترضة تفضح تزوير الكتاب

   رغم كل ما كتب وقيل عن دلائل تزوير امتاع السامر، من حيث استخدامه لمفردات ومصطلحات حديثة، ووصوله إلى معلومات لم تكن معلومة في مرحلته، مما يثبت أن تأليفه لاحق لمرحلة شعيب بعشرات السنين، إلا أنني فوجئت بأن هنالك من لا زالوا يدافعون عن حقيقة مصدرية الكتاب وانتمائه لشعيب، بل وعن صحة معلوماته الخيالية.  

   لذا سأعود هنا لتناول أحد أهم علامات التزوير في الكتاب مما كنت طرقته في كتاب "عسير والتاريخ وانحراف المسار"، وسأضيف واختصر، لإرشاد الضالين، وتنبيه الغافلين، وإقامة الحجة على من اتبعوا الهوى، ممن يظنون بانهم يحققون مكاسباً لقبائلهم او مناطقهم من خلال تلك الترهات التي ساقها المزورون في الكتاب، أو الكتب الاخرى المشابهه، للعودة للرشد والتبرؤ من سمات الغباء، وسيكون حديثنا اليوم حول طريقة طباعة الكتاب وظهوره للعلن ومدى إمكانية قبول أن يكون هذا الكتاب طبع عام 1365هـ في مصر المحروسة.

    ظهرت لكتاب إمتاع السامر متزامنة نسختان في العقد الأول من القرن الهجري الخامس عشر ، إحداهما كتب عليها "مطابع الحلبي ـ القاهرة 1365هـ"، أي أن تاريخ الإصدار عام 1365هـ، والثانية كتب على صفحتها الأخيرة (دار النصر للطباعة الإسلامية) بدون تاريخ نشر، ولكن في الصفحة الأخيرة وضع رقم الإيداع وهو 4040/1987 وهو ما يشير إلى أن الكتاب قد أودعت نسخة منه للنشر رسمياً قبل نشره بتاريخ 1987م أي ما يوافق عام 1407هـ ، والكتابان متطابقان في رقم الصفحة ورقم السطر وموضع الكلمة في السطر وحتى في الحركات ومواقع الفواصل والنقاط بل وحتى بعض الندب في الخلفية على امتداد صفحات الكتابين، أي أن الأخير صورة من الأول حسب المفترض، رغم  أن دور النشر مختلفة والمرحلة مختلفة حيث هنالك فارق زمني قدره اثنان وأربعون عاماً اختلفت فيها طريقة الطباعة كثيراً، والعجيب أن الأول طبع بخط متقطع بينما الثاني والذي يفترض أنه نسخ منه خطه متصل وأكثر وضوحاً، على غير المفترض، وما يعنينا هنا هو النسخة القديمة المدعى نشرها عن طريق شعيب الدوسري عام 1365هـ.

   في مثل حالة كتاب إمتاع السامر فإن المنطق يقول بأن  آخر ما يمكن أن نقبض على خطأ المزور فيه هو طريقة الطباعة لكون آلات الطباعة القديمة والتي سادت خلال فترة الأربعينات الميلادية وما حولها ظلت متوفرة إلى مرحلة خروج الطبعة إلى العلن (منتصف مرحلة الثمانينات)، كما أن الورق المستخدم في حينه لا زال متوفراً، كما أن جزءاً ممن عاصروا مرحلتها وعملوا فيها لا زالوا أحياء في حينه مما يجعل عملية إعادة الطباعة بنفس الطريقة القديمة ممكنة جداً، ومن البديهي جداً أن نتوقع من المزور أن يلجأ إلى المحاكاة لما أنتج خلال تلك الفترة من حيث طريقة الطباعة والغلاف وغيرها،  ولكن هذا لا يمنع أنه قد يغفل فيسقط في أي الأخطاء مما يكشف جريمته.

   ولعل أول ما يمكن أن نلاحظه في كتاب "إمتاع السامر" أن المطبعة استخدمت حرف (ي) المنقوط في نهاية الكلمات في كل صفحات الكتاب، وهي طريقة لم تكن شائعة في مصر ـ حيث طبع الكتاب ـ في حينه ، فقد عرف عن المطابع ودور النشر المصرية اختصاصها بطريقة طباعة الياء غير المنقوطة والتي تماثل الألف المقصورة، وكانت هي الطريقة السائدة في المطابع المصرية، أما في العصر الحديث ومع انتشار وسائل الطباعة الإلكترونية فلا زال عدد قليل منهم يتمسك بها كإرث مصري، بينما اتجه الأغلبية وخاصة الناشرون الجدد إلى التخلي عنها، وهذه المعلومة يبدو أنها غابت عن القائمين على طباعة نسخة إمتاع السامر الممهور نشرها بتاريخ 1365هـ (أي ما بين عامي 1945ـ 1946م)، فأخرجوا نسخة شاذة عن بيئتها في تلك المرحلة.

   كما يلاحظ في تنسيق الكتابة في كتاب إمتاع السامر الالتزام بضم الفواصل والنقاط بالجملة أو المفردة السابقة وفصلها عما بعدها، وهو نمط جديد في الطباعة شاع بعد مرحلة طباعة نسخة مطابع الحلبي التي صدرت عام 1365هـ/ 1945م بسنين عديدة.

غلاف امتاع السامر ونلاحظ أن الطباعة تمت بمصر بتاريخ 1365هـ/  الموافق 1946م








أعلاه عدد من صفحات كتاب امتاع السامر ونلاحظ الياء  المنقوطة على غير المعروف في المطابع المصرية حتى ذلك التاريخ كما نلاحظ الالتزام بالطرق الحديثة في الترقيم وذلك بربط الفواصل والنقاط وبقية علامات الترقيم بالكلمة (الجملة) السابقة بشكل كامل على خلاف جميع الاصدارات العربية في حينه.

   ولكي نستوعب تطور الطباعة العربية سنعرج على تاريخ الطباعة العربية باختصار، وسنعطي بعض الأمثلة على تطور الطباعة منذ بداياتها.

   تذكر بعض المصادر ان هنالك مطابع خاصة نحتت حروفها بالعربي في لبنان والاسكندرية منذ القرن السابع عشر باجتهادات خاصة، وانتجت هذه المطابع بعض الكتب، وتواجدت بعض المطابع في القرن الثامن عشر بالدولة العثمانية، بينما نشأت صحيفة مطبوعة بالمغرب في مرحلة لاحقة، إلا ان الملاحظ بعد تتبع أقدم المراجع والكتب المتاحة الآن بالإضافة لنمط الطباعة الأول والذي استمر خلال معظم القرن العشرين أن الطباعة بالأحرف العربية بشكل واسع وتجاري بدأت أساسا في الهند والتي كانت مستعمرة بريطانية، فيبدو أن البريطانيين قد حرصوا على الطباعة باللغة الهندية التي يفهمها المجتمع ويمكنهم ايصال رسائلهم إليه عبرها، وبالتالي ظهرت مطابع باللغة الأردية التي تكتب بالأحرف العربية منذ وقت مبكر، ومن ثم ظهرت لنا الكتب العربية المطبوعة في الهند بدايةً خلال القرن التاسع عشر، وإذ أنه كان ينقص الأحرف الهندية الألف المقصورة، والتي هي غير مستعملة في اللغة الهندية ، وحيث كانت الكتابة الهندية لا تراعي وضع النقاط تحت الياء عندما تكون في نهاية الكلمة، لذا استعملت الألف المقصورة والياء برسمة واحدة في الكتب المطبوعة باللغة العربية في تلك المرحلة.

 ومما يميز هذه المرحلة ان علامات الترقيم (الفواصل والنقاط ...)، وفصل المقاطع الكتابية عن بعضها لم يكن معروفا ولا سائدا في الطباعة، فكانت الصفحة كتلة واحدة، ولا ينفصل سوى العناوين، وهذا انموذج من الكتب الهندية:

كتاب حرب بني شيبان مع كسرى الصادر من الهند عام 1888م/1305هـ

صورة من كتاب حرب بني شيبان مع كسرى المطبوع في الهند عام 1888م، ونلاحظ الاسترسال وعدم فصل المقاطع، وعدم وجود علامات الترقيم ، كما ان الياء المتممة للكلمة غير منقوطة دائماً

   وقد انتقلت تلك المطابع الأوروبية ذات الأحرف العربية (الأردية) إلى مصر التي سارعت باستيراد المطابع في عهد محمد علي، وبدأت الطباعة في مصر في تلك المرحلة، وكانت في بدايتها مماثلة تماماً للطباعة الهندية بالضبط من حيث رسم الياء بنفس رسم الألف المقصورة (غير منقوطة) عندما تكون في نهاية الكلمة، ومن حيث الاسترسال (عدم فصل المقاطع عن بعضها)، وانعدام علامات الترقيم، فتكون الصفحة بكاملها مقطعا واحداً، وربما استخدمت بعض المطابع دوائر أو نجوم للتمييز بين المقاطع، كما كان متبعا في النسخ اليدوية من الكتب، فكان لذلك أثره في الكتب الصادرة في مصر خلال القرن التاسع عشر للميلاد وبداية القرن العشرين ومن أمثلة ذلك التالي:




الكتابان أعلاه طبعا في مصر وهي كل من أبي معشر الفلكي (طبع بداية القرن العشرين) وكتاب تسهيل المنافع (طبع عام 1900م) ويحمل الكتابان نفس سمات الطبعة الهندية أعلاه من حيث الياء غير المنقوطة وانعدام علامات الترقيم واتصال الكتابة بكامل الصفحة بدون مقاطع

   وقد تطورت الطباعة في مصر واتسعت ونشأت بها دور الطباعة الاحترافية، وأنحت الهند حتى أصبحت هي مقر الطباعة الرئيسي للكتب الصادرة من جميع الدول العربية، كما تطورت طرق الطباعة واستعملت علامات الترقيم (التي يبدو أنها كانت مهيأة في المطابع من الأساس، ولكنها لم تكن معلومة في الوطن العربي من قبل)، وكان ذلك خلال فترة النصف الأول من القرن العشرين تقريبا، حيث دخلت بيروت بعدها على الخط وأصبحت مقرا آخر للطباعة يتجه له المؤلفون والناشرون العرب.

 ومن ثم وبدخول بيروت فقد بدأت طريقة جديدة في الطباعة، إذ أن المطابع المصرية استمرت في اعتماد الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمة، ربما لأن التغيير سيكون مكلفاً في الوقت الذي لم يظهر فيه اي أثر منظور على وضوح المعنى ، إذ استمرأ الناس القراءة بهذه الطريقة وفهمها بسهولة، بينما المطابع اللبنانية بصفتها جديدة فقد تلافت هذا النقص للتميز، لذا فقد طرأ تمايزا جديداً، وهو ما أطلق عليه الياء المصرية والياء الشامية، وبات سمة للفرق بين الطباعة هنا وهناك، ولكن لم يكن يعرف عنها الكثير من المؤلفين فما كانت ملفتة، ولكنها معلومة للمتخصصين في  الطباعة.

   أما من حيث علامات الترقيم فقد ظلت تستخدم بنفس الطريقة القديمة في كل مطابع الوطن العربي حتى بداية مرحلة الثمانينات،  إذ لم يتم تنظيمها بالطريقة الأوروبية، فكانت مطابع مصر ولبنان ـ وكل الدول العربية التي دخلت لاحقاً ـ  تضع علامات الترقيم ـ كالفاصلة والنقطة وغيرها ـ على مسافة واحدة بين الكلمتين، فيوضع (space) قبلها وآخر بعدها، لذا فكل الاصدارات العربية في مرحلة ما قبل الثمانينات (وربما أواخر السبعينات) من القرن العشرين لم تلتزم بربط علامات الترقيم بالكلمة السابقة. 

وسنعرض بعض الكتب الحاضرة ـ كعينة عشوائية ـ والتي طبعت قبل فترة الثمانينات الميلادية، ومعظمها بعد التاريخ المفترض لطباعة كتاب امتاع السامر، والتي يفترض أن تكون أكثر ارتباطاً بالمفاهيم الأحدث في تنسيق الطباعة بصفتها طبعت في فترة لاحقة:

 


أعلاه صورة الغلاف وصفحة من كتاب في بلاد عسير الذي طبع بمصر بتاريخ 1371هـ الموافق 1952م، ويلاحظ فصل وتوسيط الفواصل والنقاط والالتزام باستخدام الياء غير منقوط في نهاية الكلمة حسب الطريقة المصرية في الطباعة في حينه


 



غلاف وصفحة من الموسوعة الميسرة المطبوعة عام 1965م ونلاحظ الالتزام بالياء غير المنقوطة بصفته مطبوعة مصرية، وبوضع علامات الترقيم على الطريقة القديمة (غير مرتبطة بالكلمة السابقة) 



مجلة مصرية في فترة السبعينات طبعت عام 1973م ونلاحظ الالتزام بالياء المصرية (غير المنقوطة في نهاية الكلمات)، كما يلاحظ أنه حتى ذلك الحين لم تكن الطرق لحديثة في وضع علامات الترقيم قد استعمل إذ التزمت المطبعة بتوسيط العلامات بين فراغين.


   وما ذكرناه عن هذه الكتب ـ كنماذج ـ ينطبق على كل الكتب التي صدرت في نفس المرحلة من المطابع المصرية، حيث سادت الياء غير المنقوطة في نهاية الكلمات، وينطبق على كل المطبوعات العربية في تلك المرحلة من حيث عدم اتباع الطرق الاوروببية في ربط علامات الترقيم بالكلمات السابقة.

   هكذا وجدناها جميعاً، ولكن امتاع السامر شذ عن هذه القاعدة، واستخدم طريقة حديثة في كتاب أقدم منها كلها، ما يدل دلالة واضحة على أنه مزور في مرحلة حديثة لم تسبق مرحلة الثمانينات الميلادية من القرن العشرين، ولا ينتمي لشعيب الدوسري الذي توفي عام 1946م  كما تقول نفس المصادر.

والله أعلم                                       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق