الخميس، 5 نوفمبر 2020

القط العسيري كبصمة من أثر اللغة والأدب العربي

 




   في لغتنا الدارجة هنالك الكثير من المفردات غير المعجمية والتي لا نجد لها أصولا في المعاجم ولا في اللغات الأخرى، وعادة ما نهملها بناء على عدم وجود شهادة قديمة بفصاحتها، بينما هنالك الكثير من هذه المفردات هي كلمات عربية أصيلة، بل ربما تكون بعضها أعرق من معاجم اللغة ذاتها، لذا جهلتها، خاصة ما ارتبط بعادة أو مهنة أو فن متوارث منذ القدم، وهذه المفردات على درجة من الأهمية لسبر أغوار تاريخنا اللغوي والأدبي.

   أثناء القراءة في أحد المصادر شدني ما وقفت عليه من ورود كلمة "قط" في إطار مفهومها الذي نعرفه، في كتاب الله في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}، وقيل أن هذه الآية تشير إلى استهزاء المشركين بقوله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه} و {وأما من أوتي كتابه بشماله}، فهذه الآية تورد مسمى "القط" كنمط من الكتابة أو الكتب المدون بها، بينما "القط"  حالياً هو اسم نوع من الفنون الزخرفية القديمة والذي كان سائدا في أجزاء من منطقة عسير.

   وللتعريف بالقط، فهو فن زخرفة جدارية منزلية كان يمارس في حدود منطقة جغرافية محدودة في منطقة عسير، وهو عبارة عن خطوط ومثلثات ومربعات وانكسارات وأشكال هندسية مختلفة ورسمات تستخدم فيها أربعة ألوان وهي الأخضر والأحمر والأزرق والأسود، كلها تستخرج من البيئة المحلية، ولكل شكل (وحدة) من هذه الأشكال الهندسية مسماه الخاص، فتبدو عندما تدرك أسمائها وكأنك تقرأ (أبجدية زخرفية)، ويتكون القط في بنيته الشكلية الأساسية من أربعة خطوط مستقيمة تمتد بشكل أفقي ولكنها تنزوي حول النوافذ والأبواب وما يشابهها كالبرواز، وتعلو فوق هذه الخطوط الأشكال الزخرفية بسمك مختلف بين منزل وآخر ولكن عادة ما يكون عرض القط في حدود ما بين 20-60 سم في المتوسط، ويمتد على جميع جوانب المداخل والمجلس والمبسط، وربما كامل المنزل، ويبدأ القط من ارتفاع حوالي 60-100سم عن الأرض ويكون ما تحته مطليا بالأخضر (الخضار)، وما فوق القط يكون باللون الأبيض (الجص).



   وقد ظل هذا النوع من الفن مغمورا على مدى قرون كحال فنون مناطق العمق في الجزيرة العربية حتى أشار له الأستاذ محمد رفيع في بداية العقد الثامن من القرن الرابع عشر الهجري في كتابه "في ربوع عسير"، بعد أن استوطن قرية "رجال" في محافظة رجال ألمع، وعمل بها مدرساً، وزار مدينة أبها وتجول في القرى في بلاد عسير وما حولها، وكتب كتابه المذكور، وضمَّنه الإشارة إلى هذا النوع من الزخرفة في بلاد عسير سراة وتهامة.

   ثم بقي هذا الفن واسمه حبيس المنازل العسيرية وأوراق كتاب محمد رفيع، عدى بعض الصور التي ترد في كتب التعريف بالمنطقة والعمران بها، دون تفاصيل، إلى أن زار الكاتب الفرنسي "سيري موجير" مدينة أبها، واستقبله أحد الباحثين فتنقل مع مضيفه في منازل أبها القديمة وقريته "رُجَال" برجال ألمع، والمنازل القديمة بالقرى المحيطة بأبها، وكان من نتيجة ذلك أن فنّ القط لفت انتباه الضيف الذي كتب عنه، وبدأ الاهتمام إلى أن انتهى الأمر إلى تسجيل اليونسكو لهذا الفن كمنتج ثقافي بشري في شهر ديسمبر من عام 2017م بعد أخذ كافة المعلومات عنه، فاشتهر هذا الفن وعرف، وانتبه له الجميع واهتموا بمعرفة المزيد حوله، فاستجاب العرض الاعلامي لهذا الطلب واصبح اسم القط العسيري يتردد على الألسن.

   ومسمى القط هو من المسميات الخاصة بهذه المنطقة، وهو خاص بهذا اللون من النقوش بالذات، مما يحمل دلالة على أنه مسمىً يختص بعادة متوارثة لا زالت تؤدى بنفس الطريقة منذ القدم، لذا ظل الاسم ملتصقا بهذه العادة التي لم تتغير كما تغير سواها.

   فالقط هو مسمى قديم عريق في المنطقة، وكان له متخصصين في كل قرية أو مجموعة قرى، ومما أعرفه مثلاً من كبار السن أنه كان في قريتنا قديماً امرأة متميزة في فن القط يحال إليها أمره عادة، اسمها "زهراء" وهي أم "آل هقشة"، كل من: (الفاضل عبدالله، وأخوه فايز رحمه الله)، إلا أن مسمى القط انقطع تداوله منذ أن بدأ انتقال الناس للسكن في الفلل الحديثة مع بدايات مرحلة التسعينات الهجرية (السبعينات الميلادية).

   أثارَ هذا الفن منذ استعادة حضوره في الوسط الاجتماعي والإعلامي السؤال عن أصله، وأصل المسمى (القطّ)، واتضح أنه اسم قديم كان يدل على الخط والكتابة، أو على الصحيفة المكتوبة، ولعله ـ وهو الأرجح لدي ـ الأصل لكلمة "خطّ" التي حُرِّف نطق "قطّ" إليها على مدى الزمن، إذ أن دلالاته القديمة جداً تشير إلى نفس المعنى بالضبط، إذ أن الخط حالياً يعني في اللغة والمفهوم العام الكتابة، أو الرسالة، أو يعني الرسم الممتد طولاً، كأثر سير القلم المحبر على الورقة (أو في الجدار ـ كما هو القط)، بل إن الخط ارتبط بحسن الكتابة أو زخرفتها فنقول عن من يحسن الكتابة خطاط، وربما كان أصلها قطاط.

   ولكن متى كان مسمى القط سائدا بنفس الدلالة، ومتى انحصر في هذه الجغرافيا دون سواها، ومتى اندثر في بقية الدلالات التي أصبحت تحملها مفردة "خط" والتي تعني الكتابة، وتعني الرسالة والصحيفة المكتوبة، بينما لا يدل القط حالياً إلا على زخرفات جدارية موروثة منذ القدم محصورة في جغرافيا معينة.

   نعود إلى الآية الكريمة التي ذكرناها أعلاه، والتي تشير إلى لفظة "القط" في قوله (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا)، ونبحث عن المزيد عن المفردة والدلالات، لنرى مدى صلة القط العسيري بها، وكيف اتجه المفسرون في تفسيرها، وفي معرفة دلالة المفردة "قط"، والتي تحمل في اللغة معاني أخرى أكثر حضوراً منذ القدم كالقطع أو البتر.

   عندما نشاهد ما كتبه المفسرون والمحدثون حول معنى القط في هذه الآية نجد أنهم كانوا يجهلون معناها على أرض الواقع، إذ اختلفوا بين مرة وأخرى وبين مفسر ومفسر، واختلفوا حتى في الاشتقاق وقد اتجه جميعهم إلى الاستشهاد بأبيات من الشعر لأمية بن أبي الصلت، والأعشى، والمتلمس، وانتهى بعضهم إلى أنها اشتقاقا من القطع وبعضهم رآها مشتقة من القسط، وبعضهم اعتبرها تعني العذاب، وآخرون عدوها تعني النصيب، وهنالك من أدركوا المعنى اجتهاداً من خلال سياق الآية وسبب النزول ثم الأبيات ولكن بدون ثقة، فربطوها بصك الجائزة أو صك العذاب ... وهكذا، مما يسوق إلى أن المفردة لم تكن معروفة، ولا شائعة الاستعمال بهذا المعنى في مرحلة بداية كتابة هذه المؤلفات في النصف الثاني من القرن الأول وفي القرن الثاني ـ والتي هي مرحلة بداية التدوين ـ ثم ما بعدها.

   ولنبدأ بأقدم هذه المصادر وأكثرها اتصالا بموضوعنا وهو كتاب "غريب القرآن في شعر العرب"، وهو من مسائل نافع بن الأزرق (توفي65هـ) عن عبدالله بن عباس، وفي باب "ق ط ن"، قال:

" ق ط ن (قطنا)

قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا

قال: القطّ: الجزاء، وهو الحساب أيضا.

قال: وهل تعرف العرب ذلك؟

قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:

ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بنعمته يعطي القطوط ويطلق"

·        هذا الكتاب يعد من أوائل كتب التفسير، وهو متخصص بنقل غرائب القرآن، أي المفردات الغريبة التي وردت في القرآن مما لم يتعارف عليها الناس، وقد أورد كلمة "قطّ" الواردة في لفظة "قطَّنا" بصفتها من غريب الكلام الذي ورد في القرآن، وهذا كافٍ لنعلم بأن المفردة "قط" كانت مجهولة في ما بعد منتصف القرن الأول للهجرة، بل لم تكن من الكلمات المعلومة في عصر التابعين، وفي النص هنا أحد التابعين من اليمامة يستنكر المفردة ويسأل، ثم نجد أحد الصحابة يجيبه بأنها مفردة تعرفها العرب، ويشير إلى بيت الأعشى عن "القطوط" للاستدلال، ما يعني الحاجة إلى الشعر للإيضاح، بما يشير إلى أنها كانت في العصر الجاهلي متداولة ثم اندثرت، ولعلها كانت متداولة في الأساس في حدود معينة، ورغم أن عبدالله ابن عباس أجاب السائل وأشار لمعرفة العرب بها، إلا أن من الملاحظ أن جوابه كان مرتبطاً بالظاهر في سياق الآية وسبب تنزيلها وفي سياق البيت. وفي العموم فإن ورود المفردة في غريب القرآن بالإضافة لنص الرواية هنا يقرر بشكل واضح مجهولية المفردة وغرابتها في مرحلة التابعين خلال القرن الأول وما بعدهم.

   ومصدرنا الثاني هو أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمى البصري (110هـ - 209هـ) الذي عاش على امتداد القرن الثاني للهجرة، فقد قال في كتابه "أوزان القرآن" في تفسيره للآية: " عَجِّلْ لَنا قِطَّنا" التالي:

"القطّ: الكتاب، قال الأعشى:

ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بأمّته يعطى القطوط ويأفق

القطوط: الكتب بالجوائز."

·        نلاحظ أن أبو عبيدة ورغم وقوفه على الآية وسبب نزولها وعلاقة المفردة في السياق بالكتاب، إلا أنه استدل ببيت الأعشى أيضاً للوصول لمعنى المفردة التي لم تكن شائعة في بيئته، ومع أنه أشار بداية إلى نفس ما ذكره نافع: بأن القط هو "الكتاب"، وهو ما يفترضه سياق الآية وسبب النزول وببيت الأعشى ، إذ أن الأعشى أشار ضمنيا إلى أن النعمان لم يدم وهو الذي كان يعطي الخطوط بالجوائز، ولكنه اختزل كلمة الجوائز لأن الدلالة مفهومة من خلال الاسم ذاته للملك الذي اشتهر بالعطايا (الجوائز)، ومن ثم فإن دلالة المعنى ظاهرة في الجملة دون تفصيل. ولكن أبو عبيدة حشر كامل دلالة البيت في المفردة، فبما أن المعنى ظاهره يشير إلى الكتب بـالجوائز، والتي لم ترد في البيت، إذن فالمفردة (المجهولة) تحمل كامل الدلالة عليها، بينما المفردة في حقيقتها تدل على الكتاب أو الخط أو الصحيفة المكتوبة، ولا صلة لها بالجوائز إلا من خلال الدلالة الضمنية في البيت، والدلالة الافتراضية (المشروطة) في الآية التي قد تحمل على الجائزة (أو العكس).

   أما محمد بن إسماعيل البخاري فقد قال في صحيحه في تفسير الآية :

"(عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قبل الحساب): "القِطُّ: الصحيفَةُ هو ها هنا صحيفَة الحساب" ....

  (قطنا) قيل حظنا من الجنة ويكون قولهم هذا استهزاء وقيل نصيبنا من العذاب ويكون قولهم هذا عنادا. وقيل القط الكتاب ويطلق على الصحيفة لأنها جزء منه وقالوا هذا الكلام استهزاء لما نزل قوله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه} / الحاقة 19 / و {وأما من أوتي كتابه بشماله} / الحاقة 25 /. أي عجل لنا كتابنا في الدنيا. وأصل القط القسط من الشيء لأنه قطعة منه مأخوذ من القط وهو القطع."

·        نلاحظ هنا ان البخاري الذي قال: (قيل أن القط الكتاب)، يسوق من خلال استخدامه لـ"قيل" إلى أن معنى المفردة غير معلوم له وغير متعارف عليه، ولكنه مسبوق في ذلك، ولكن المطاف انتهى به أيضاً إلى استنباط المفردة من المعنى الشائع فقال بأن القط هو القسط من الشيء لأنه مقطوع منه.

   أما  أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) في "غريب الحديث" ورغم أنه مسبوق إلى المعنى فقد ذهب بعيداً عندما قال:

"القطوط: الأرزاق وَاحِدهَا قطّ. قَالَ الْأَعْشَى: من الطَّوِيل ...

وَلَا الْملك النُّعْمَان يَوْم لَقيته ... بامته يُعْطي القطوط ويأفق ...

بأفق: يفضل وأصل القط الْكتاب وانما سمي الرزق قطا كَانَ لِأَنَّهُ يكْتب بِهِ الى النَّاحِيَة الَّتِي يكون فِيهَا حق السُّلْطَان من الطَّعَام فَسُمي باسم الْكتاب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَول الله جلّ وَعز: {عجل لنا قطنا} . القط: الْحساب. وَلَا أرَاهُ سمي قطا الا لِأَنَّهُ يكون بالكتب الَّتِي أحصيت فِيهَا أَعمال بني آدم. وَقَالَ المتلمس حِين نظر فِي الصَّحِيفَة وَعرف مَا فِيهَا وَأَلْقَاهَا فِي المَاء: من الطَّوِيل ...

ألقيتها بالثني من جنب كَافِر ... كَذَلِك أقنو كل قطّ مضلل"

·        ونلاحظ أن الدينوري رغم استشهاده ببيت الأعشى وبيت المتلمس التي كانت تشير إلى القط بمعنى "الكتابة" أو "الصك المكتوب، ورغم أنه قد دار في اطار المعنى عندما قال: (وأصل القط الْكتاب)، إلا أنه ذهب بداية إلى قياس بيت الأعشى على الأرزاق والآية على الحساب، بينما بيت المتلمس يدل على الصحيفة، فهو انساق مع خصوصية السياق في كل نص.

   أما إبراهيم بن السري بن سهل المعروف بأبي إسحاق الزجاج فقال:

"(وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (القِط) النصيب، وأصله الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه قال الأعشى:

ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يوم لَقِيتُه. . . بغِبْطَته يُعْطِي القُطوطَ ويأْفِقُ

يأْفِقُ يُفْضِلُ.

وهذا تفسير قولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وهو كقولهم (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا) - الآية

وقيل إنهم لما سمعوا أن المؤمن يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله، فيسعد المؤمن ويهلك الكافر، قالوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا.

واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ. وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء."

·        ونرى كيف أن الزجاج أخذ يستشهد ببيت الأعشى ويستحضر ما ورد حول المعنى من سابقيه ولكنه عاد لينتهي به المطاف إلى القول: " واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ. وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء.

وهو نفس الذي انتهى إليه الكثير من الاتكاء على المعنى المشهور للمفردة وهو المرتبط بالقطع (القط).

   أما أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن إدريس التميمي الحنظلي الرازي في كتاب "تفسير القرآن العظيم لأبي حاتم" فقد قال:

"قطنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا» قال مجاهد: «عذابنا» . كذا قال قتادة: "نصيبنا من العذاب" وقال الحسن: "نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا".

وقاله سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة رقط. قال الفراء: "القط في كلام العرب الخط والنصيب. ومنه قيل للصلاة قط"."

 

·        وهنا نجد الرازي ينقل معاني مختلفة لمفردة "قطنا" عن أعلام المحدثين مثل مجاهد (قال عذابنا) وقتادة (قال نصيبنا من العذاب) والحسن (البصري) (قال نصيبنا من الجنة لننعم بها) ما يدل على غرابة المفردة، فينتهي به المطاف إلى إيراد النصيب كمعنى للقط ليجاري خصوصية السياق في الأبيات والآية.

 

   أما بيان الحق محمود النيسابوري الغزنوي (ت531) في كتابه "باهر البرهان في معاني مشكلات القرآن فقد أورد المفردة ضمن واحدة من المشكلات وقال:

"(عجل لنا قطنا)

ما كتب لنا من الرزق. وقيل: من الجنة ونعيمها. وقيل: من العذاب.

وأصله القطع، ومنه قط القلم، وما رأيته قط، أي: قطعاً، ثم سمي الكتاب قطاً، لأنه يقطع ثم يكتب.

قال أمية بن أبي الصلت:

قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلم."

·        ونجد أن بيان الحق قد أورد العبارة كمشكل ضمن مشكلات معاني القرآن التي أوردها في كتابه، وهو تصريح بمجهولية مفردة "قطنا" التي تقوم عليها، وغرابتها، وعدم تداولها خلال المراحل اللاحقة لصدر الإسلام. كما نجده يقع في نفس فخ الانقياد لخصوصية الدلالة في سياق الآية وبيت أبي الصلت، إذ يشير إلى معاني لا يبدو أنها تقف على المعنى المطلق للكلمة بعيدا عن السياق.

   وقد شرق وغرب الكثير من المفسرين والشراح والمحدثين سوى هؤلاء، ووقعوا في نفس اللبس، رغم أن أكثرهم اتكأ على من قبله ممن استفاد من سياق الأبيات المذكورة وسياق الآية، وهذا يسير بنا إلى أن المفردة لم تكن معروفة ولا متداولة منذ البداية، وأن مصدر التفسير لمعناها جاء من أبيات الأعشى وأمية بن أبي الصلت والمتلمس.

   ستكون معلومة قديمة، أن نستنتج مما سبق أن الشعر الجاهلي كان حاضراً بقوة في تفسير معاني القرآن، وفي إمداد معاجم اللغة والبلدان والأماكن والقبائل، ولكن ما جد هنا هو أننا وضعنا أيدينا على مفردة جاهلية اندثرت فيما بعد الاسلام، ولم ترحل مع من رحل إلى الكوفة والبصرة ودمشق وبغداد وسواها من عواصم العلم والسياسة والثقافة العربية إلا عبر الشعر الأصم الذي كان يتم استنباط معاني مفرداته النادرة ـ والتي لم يعد لها حضور في تلك الديار ـ من سياق أبياته فقط، ومن ثم إسقاطها على المعنى المفترض.

 ولكن هنالك من يقول أن ما حدث كان عكس ذلك !.

   أشار عدد من الباحثين بدايات القرن الماضي ضمنياً إلى أن القرآن كان بداية لغة أخرى لدى العرب، (انظر مرجليوث: أصول الشعر العربي وطه حسين: في الشعر الجاهلي)، ومن ثم فإن الشعر الجاهلي عند أصحاب هذا الرأي استنبط من اللغة الإسلامية (القرآنية)، أو لنقل أنه ابتدع للمفاخرة، والتقعيد للغة القرآنية التي لم تكن معروفة لدى العرب فعرفت مذ ذاك ، فورودها في الشعر لاحق للقرآن لا سابق له، يقول طه حسين ما مضمونه أننا إذا أردنا أن نفسر لغة القرآن فلا طريق إلا بالقرآن ذاته، أو ربما وبدرجة محدودة بالرجوع إلى القصص والأساطير العربية فهي على علاتها أصدق من الشعر في رأيه، ويشير ثيودور نولدكة (انظر: تاريخ القرآن) إلى أن القرآن أضاف الكثير إلى لغة العرب، وهنالك ممن جاؤوا بعدهم من يضربون على نغمة أن الشعر الجاهلي لا يصلح كمصدر لاستقراء التاريخ، نظرا لعدم الثقة به.

   ورغم أن الفكرة قد تهاوت إلى درجة كبيرة إلا أنه لا زال هنالك أتباع، كما أن الرفض الكامل لها غير وارد، إذ أن وجود الانتحال في الشعر العربي معلوم منذ القرون الأولى تحدث عنه المؤلفون العرب كالجاحظ وابن سلام والظبي وغيرهم، ولكنهم أشاروا لوجوده كحالات محدودة، بعيداً عن التشكيك في كامل الشعر الجاهلي كما فعلا، لذا فلا شك أننا بحاجة إلى المزيد من تلمس المدى الممكن لرفض أو تأييد مثل هذه الأقوال، فتنحية الشعر الجاهلي عن سردية التاريخ العربي يعني الكثير، ولكن هل يصح ذلك ؟.

   النقاش حول مجمل الفكرة تم اشباعه من قبل الكثير من الباحثين العرب، منهم ناصر الدين الأسد، وإبراهيم عوض، وعبدالرحمن بدوي، وحسين البهبيتي، وحسين مروة، ونولدكة، وغيرهم كثير، لا تحضرني أسماؤهم، أو أني لم أطلع على ما كتبوه، كما اهتم بدراسة المسائل الجزئية في الشعر الجاهلي الكثير من الباحثين الجدد الذين عنيوا بالأنساق، والدلالات اللغوية، والمشتركات، والمعالم، والأسلوب الفني، وغير ذلك مما يغطي جانبا معرفيا يشي بمدى الترابط في هيكله العام، وتماسكه.

   ومن خلال ما تقدم سرده نجد أن مفردة "القط"، والتي وردت مرة واحدة في القرآن، والتي أدرجت ضمن المفردات الغريبة في القرآن منذ وقت مبكر، قد أشكل الوصول إلى تحديد معناها الدقيق من قبل المفسرين منذ بداية مرحلة التدوين في القرنين الأول والثاني للهجرة، إلا من خلال استحضار أبيات الشعراء الجاهليين، ومقارنتها مع سياق الآية وسبب النزول، ورغم أنها وردت في الشعر الجاهلي ثلاث مرات على الأقل لدى ثلاثة شعراء، في سياق يرتبط بالمعنى، فإنهم اختلفوا وأشاروا ضمنياً إلى مجهوليتها بالنسبة لهم، ومن وصل منهم إلى دلالة مقاربة لم يثق في النتيجة.  

   ومن ثم فمفردة "القط" تعتبر عينة نموذجية لتلك المفردات القرآنية التي قد يُتَّهم المفسرون والشعراء في العصر العباسي باستحضار معناها عنوة باسم الشعر الجاهلي المبتدع، حسب الآراء التي ذكرنا.

   على الجانب الآخر فالمفردة ظلت تحمل معناها في جزء داخلي محدود من الجزيرة العربية، وتشير إلى فعل القلم على الصفحة البيضاء على جدران منازل العسيريين، مما يدل على الخط أو ما يشابهه من الرسم أو الزخرفة منذ ذلك التاريخ، في الوقت الذي جهل الجميع بما فيهم العسيريون أصل الكلمة القديم، فهي بالتالي ظلت تحمل معنى مخصصا لبعض العادات المرتبطة بالخط متوارثة منذ تلك العصور، مما يعطي مصداقية لما ورد في الأبيات ويدل على تلقائيتها ومصداقيتها، فالمفردة مجهولة في عصور التدوين معروفة في الشعر الجاهلي، ومن ثم فلعل الكشف عن هذا الفن (القط) للعموم قد أظهر لنا بصمة جديدة من أثر لغة الشعر الجاهلي في جزيرة العرب، التي كاد أن يمحو أثرها الزمن، وسجلنا شهادة أخرى لصالح درجة مصداقية الشعر الجاهلي، خاصة وأن الشعراء الثلاثة الذين أوردوها هم ممن شكَّك في شعرهم بل وفي وجودهم مرجليوث وطه حسين.

والله أعلم.

                                            

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق