الاثنين، 2 ديسمبر 2013

إنموذج للوثائق التاريخية في عسير

قلت سابقاً بأن الوثائق العسيرية لم تعد مؤتمنة على التاريخ العسيري، فيما عدا تلك الثابت كتابتها  قبل منتصف القرن الثالث عشر للهجرة، وهنا سنلقي نظرة على واحدة من الوثائق التي ورد ذكرها في أحد المصادر الحديثة وندرس حال هذه الوثيقة.
  فقد أورد الباحث / علي عوض آل قطب في كتاب "الأمراء اليزيديون  عسير ... تاريخ لم يكتب" ضمن الوثائق التي استدل بها وثيقة كتبت في تاريخ ١٢٤٦هـ أي قبل حوالي مائتي عام وتمثل ورقة صلخ بين قبيلتين من قبائل تهامة عسير وهذه هي الوثيقة:

هذه الوثيقة التي أوردها الباحث في كتابه تمثل في الحقيقة مفاجأة حقيقية، لأنها لم تخرج إلا متأخرة، رغم أنها تؤرخ وبدقة لغزوة دوغان، ولوجود منصب "خليفة الأمير" (أي نائب الرئيس أو ولي العهد حسب الأنظمة الحديثة)، وبغض النظر عن نقاء الخلفية والذي لم نعهده في الوثائق المجايلة، وبغض النظر عن اختلاف وضوح الخط بين مفردة وأخرى وتباين الحبر بدرجة عالية يفترض عدم وجودها بهذه القوة مع مرور كل هذه السنين، وعن كل شيء حول جمال الخط واحترافيته، فإننا سنعرج إلى الملاحظات حول النص ذاته وملابسات الحدث ومنها :
١) الوثيقة عبارة عن صلح بين قبيلتي بني جونة وبني عبد (شحب) وهما من قبائل تهامة عسير، ويحدد الحدود الفاصلة بينهما إثر حدوث غزوات ومشاكل بين القبيلتين حول الحدود (حسب النص)، ولكن ذلك كان أثناء وجود الجيش العسيري خارج المنطقة وبالضبط في تهامة اليمن "بلاد الصليل (الصهاليل)"، والجيش العسيري عادة ما كانت تساهم فيه قبائل المنطقة بشكل مقنن، ومن المفترض وحسب حجم القبيلتين المذكورتين والتان تمثل كل منهما واحدة من سبع قبائل في رجل ألمع والتي كانت تساهم بعدد سبعمائة مقاتل في الجيش العسيري أي أن كلا منهما ساهمت بعدد مائة رجل يفترض أنهم من أفضل رجال القبيلة شجاعة وعقلاً، ومن يعرف العادات القبلية في منطقة عسير يعرف استحالة أن يحدث صلح بين قبيلتين في مثل هذه الضروف، فمن أسوأ الأمور المثيرة للفتن والتي يتحاشاها الناس في عسير عادة، "السفهة"، وهي تعني الاستصغار أو الاستهتار أو الاحتقار للشخص وقيمته، كأن تجتمع القبيلة للتشاور في أي أمر دون أحدها، وقد تحدث الكثير من المشاكل ممن يتعرض لشيئ كذلك، فعادة ما يعترض المستثنى من هذا الاجتماع بصوت عالي ويحتج على سفهه، مما قد يثير فتنة، وقد يعترض المستثنى على الرأي ويفسده أو تقوم القبيلة (بالحق) جراء ذلك، ولكننا هنا أمام عملية تجاهل (سفه) لمجموعة كبيرة من كبار القوم مكانة وشجاعة ونشاطاً!.  فكيف تجرأت القبيلتان على توقيع اتفاقية بهذه الأهمية دون وجود مائة رجل من خيار كل منهما؟.
٢) الوثيقة تحمل إشارات واضحة الدلالة التاريخية مثل تحديد تاريخ الحرب بالسنة والشهر وربط ذلك بحدث تاريخي وهو معركة دوغان، كما تحدد اسم الرجل المكلف بمهام الأمير بن مجثل في غيابه، بل والأغرب أنها تطلق مسمى "خليفة" ذو الدلالة التاريخية الإسلامية المعروفة، وهو ما لم نجد أثراً له في كل الوثائق العسيرية الأخرى، ونجد ذلك في قول "بنظر عايظ بن مرعي خليفة علي ابن مجثل في غزوة دوغان سنة ست وأربعين ومائتين وألف في شهر رجب"، وهذه القصدية التي تشير بهذا الوضوح إلى دلالات تاريخية على درجة عالية من الأهمية، غريبة في ظل وثائق عسيرية وعثمانية مجايلة معظمها مبهمة لم تحمل حتى التاريخ.
٣) من الغريب أن يطلق الناس في عسير على الحرب المزمع خوضها في تهامة اليمن هناك اسمها التاريخي قبل عودة الجيش، علماً بأن مسمى "دوغان" ليس مسمى منطقة أو مدينة او قبيلة ذهب الجيش العسيري لغزوها، بل هو مسمى أحد قصور "الكلفود" (شيخ قبائل الصليل)، والذي لجأ إليه في نهاية الحرب فحاصره الجيش العسيري فيه.
٤) حسب هذه الوثيقة فإن عائض بن مرعي كان على درجة عالية من الأهمية في الإمارة العسيرية لدى الأمير علي بن مجثل بل ربما كان ولي العهد والقائم بأمر الإمارة إلى جانب علي بن مجثل فهو الرجل الأهم بعد الأمير، ومن المفترض أنه أقرب الناس وأهمهم لديه، ولكننا نجد أن الأمير علي بن مجثل يتجاهل وجوده فيما وجدناه من رسائله حيث نشر د. عبدالله أبو داهش رسالة منه إلى أهم علماء عسير في حينه وكان ذلك مع بداية انتشار صيت الإدريسي (أي في آخر أيام الأمير علي بن مجثل)، فقد أشار ابن مجثل في الرسالة إلى سبعة من أعيان عسير على رأسهم "محمد بن مفرح" الرجل الثاني فعلا في حينه ـ كما تدل الوثائق التاريخية الأخرى والاحداث التاريخية ـ بالإضافة لستة من الأعيان الذين ناب عنهم الأمير في إبلاغ السلام إلى علامة عسير في حينه "إبراهيم بن أحمد الحفظي" الذي كان يقطن تهامة (قرية رجال)، بينما لم يكن بينهم "الخليفة" المفترض، وهذا نص الوثيقة كما أوردها الأستاذ عبدالله أبو داهش:


وهذه نسخة من الوثيقة:

٥) والأغرب من كل ذلك أن محمود شاكر وخير الدين الزركلي (غير رأيه وأيد الرأي لآخر بعد اطلاعه على مذكرات سليمان باشا)،  ومثلهم الكثير من مؤرخي عسير قد انبروا للرد على الريحاني ووهبة (قبل تحقيق مذكرات سليمان باشا)، وانكروا  عليهما ما أورداه من ان عايض بن مرعي كان في أول عهده راعيا ولا صلة له بأسرة الحكم، ولكن أيهم لم يستشهد بهذه الوثيقة ليدعم حجته، مع أنها كانت موجودة لدى "أستاذ" - حسب وصف الباحث - يفترض أنه مهتم بالشأن الثقافي في بلاد عسير ومتابع لكل ما يدور فيه، ولكنه لم يتكرم على المعترضين بهذه الوثيقة في الوقت المناسب لدعم موقفهم، وهو يراهم يشرقون ويغربون باحثين عن أي نص يساندهم.

وهنا سأترك للقارئ الحكم على هذه الوثيقة وعلى ما أوردته في كتاب "عسير والتاريخ وانحراف المسار" حول ضرورة توخي الحذر عند التعامل مع الوثائق العسيرية، لأنها لم تعد مؤتمنة على التاريخ العسيري.

هناك 4 تعليقات:

  1. ابداع منقطع النظير في وقت شححت فيه المصادر وقل فيه الكتاب

    ارفع لك اسمى ايات التقدير والاحترام وننتظر جديدك

    ردحذف
  2. دوغان عاصمة الكلفود وهي لا تزال موجودة حتى اليوم ولم تكن مجرد قلعة فقط ، أما القبيلة التي كان يحكمها الكلفود فهي صليل وليست " الصليل " بالتعريف ، لايزال ال الكلفود مشائخ حتى اليوم لكن مشيختهم انحصرت في قريتي دوغان والكروس . وشيخها اليوم هو الشيخ أسامة الكلفود وهو شيخ شاب تولى المشيخة عام 2015م ، اطلعت على مواضيع أخرى على النت في مواقع مختلفة تتحدث عن حرب ابن مجثل مع آل الكلفود وفيها أخطاء في الأسماء رغم اعتماد تلك الكتابات على وثائق تاريخية ، لكن يبدو ان تلك الوثائق كان كاتبوها لايدققون الأسماء والمواقع جيدا " علوان الجيلاني"

    ردحذف
  3. شكرا لك على هذه المعلومات التفصيلية عن "دوغان"، وقبيلة الصليل ومشيختها "الكلفود"
    كثير من البلدات يشار إليها في الوثائق التاريخية بمسمى "قلعة" خاصة إذا كانت محصنة واستخدمت لمقاومة الحصار، مثل "طبب" و"الطور" و"ريدة" في بلاد عسير ومثل "مسار" في اليمن، وهنا نجد دوغان في بلاد الصليل .. وغيرها

    ردحذف
  4. قبيلة الصهاليل ليس هي قبيلة صليل

    ردحذف